يروى مرتضى المراغى أنه إذ سمع رسالة البنا التى يريد توصيلها إلى الملك ، فإنه سكت مليًّا ، ثم قال لحسن البنا الذى كان يحدق فيه بنظرة نفاذة ليعرف تأثير كلامه : « يا أستاذ حسن ، إن رسالتك خطيرة ، وسأبلغها إلى الملك ، وسأبلغ رأيك فى حل الإخوان وخطورة عاقبته إلى النقراشى » .
فهز الأستاذ البنا رأسه ليكرر : « إنى أعرف أنه عنيد ، وسينفذ رأيه ، ولكنى رجوت أن تخبر الملك لعله يقنعه بالعدول عن تلك الجريمة النكراء » .
ثم كرر قائلاً وعيناه تقدحان : « نعم . إنها جريمة نكراء يريد النقراشى ارتكابها . هل يظن أننا لعبة فى يده يستطيع تحطيمها بسهولة ؟! »
قتل النقراشى باشا
مضى مرتضى المراغى يصف اللقاء وانطباعه به ، وما تلاه ، وأوثر هنا أن أنقل للقارئ كلامه بنصه ولفظه . قال :
« وانقلب الشيخ الوديع نمرًا هائجًا ، ولكنه عاد إلى طبيعته الهادئة حينما رآنى أنظر إليه ، وضحك قائلاً :
« لا تؤاخذنى إذ نسيت نفسى .
قلت : يا أستاذ حسن ، إن الإخوان المسلمين أصبح عددهم كبيرًا ، وأصبحوا قوة . وخصومكم يقولون : إنكم انحرفتم عن أن تكونوا جماعة دينية ، وأصبحتم حزبًا سياسيًا ، لأنكم تقولون : إن الإسلام دين وسياسة ، فلماذا لا تتقدمون للانتخاب ليكون لكم نواب يدافعون عن وجهة نظركم ؟
قال الشيخ حسن : لقد قدمنا بعض المرشحين من أعضاء الجماعة إلى الانتخابات ، لا باعتبارهم إخوانًا مسلمين ، لأننا نعلم أن الحكومة ستعمل على إسقاطهم ، ولكن كمستقلين . ولكن الحكومة عملت جهدها على اسقاطهم . أتدرى يا أستاذ مراغى متى نستطيع دخول الانتخابات بصفتنا إخوانًا مسلمين ؟
قلت : متى ؟
قال : حين يقبل الملك أن يكون لنا فى الوزارة وزيران أو ثلاثة وزراء . عندئذ نعرف كيف نحظى بعدد من كراسى مجلس النواب .
قلت : هل تعنى أنكم تقبلون دخول الوزارة إذا دعاكم الملك من دون شروط ؟
قال : نعم من دون أية شروط . لأن وجودنا ضرورى لخدمة البلد . إن برنامجنا الاجتماعى إصلاحى يقوم على أسس قوية .
قلت : يا أستاذ حسن . وماذا يصنع وزراؤكم فى رخص نوادى الميسر والملاهى والبارات والخمر ؟
ضحك الأستاذ وقال : هذه قفشة لا بأس بها ، ولكن تتعدل . وعسى أن يستطيع وزراؤنا إزالة ذلك المنكر .
قلت : لعل هذا من باب « والله لنخوضن إليكم الباطل حتى نصل إلى الحق » . أو من باب الضرورات تبيح المحظورات .
قال الأستاذ : نعم لك الحق . لقد فهمتها جيدًا وفسرتها يا أستاذ مرتضى » .
* * *
وفى اليوم التالى قابلت النقراشى باشا ورويت له الرواية .
فهز رأسه استخفافًا وقال :
كان أحسن لو لم تقابله .
قلت له : بل كان واجبًا . ثم أخبرته بأنى سأرسل تقريرًا إلى الملك عن مضمون رسالته له فصرخ قائلاً :
إنى آمرك ألاَّ ترسل شيئًا إلى الملك .
قلت : لقد وعدته .
قال : كيف تعده من دون إذنى ؟
قلت : قد أكون أخطأت وأرجوك أن تبلغ الرسالة أنت إلى الملك .
وكنت بالفعل قد كتبت تقريرًا بموضوع المقابلة سلمت النقراشى نسخة منه . فصرخ قائلاً:
هل تريد أن تفرض على رأيك ؟
قلت أعلم أنى موظف فى وزارة الداخلية ، وأنت الوزير . ولكنى بصفتى مدير للأمن العام ، أقول لك : إن العواقب خطيرة .
وفى هذه الأثناء دخل عبد الرحمن عمار وكيل الوزارة ، وكان النقراشى هائجًا مربدّ الوجه . فأشار إليه النقراشى بالجلوس ، وقال :
أنظر ما فعله مدير الأمن وقص عليه الرواية .
وإذا بعبد الرحمن عمار يقول :
على كل حال المسألة منتهية يا دولة الرئيس ، فقد انتهيت من وضع قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ، وسأعرضه غدًا على دولتكم لتوقيعه .
هالنى الأمر . فقلت : أرجو يا دولة الرئيس أن تقدر خطورة الأمر وأن تتمهل فى إصدار القرار . إن الإخوان المسلمون يشكلون منظمات وخلايا سرية لا علم لوزارة الداخلية حتى الآن بأسماء أعضائها . وقد يكون بعضهم داخل الوزارة ومن حراس الأمن . وأنا أعلم أن كثيرين من ضباط الجيش هم من جماعة الإخوان .
قال النقراشى : هل تريد أن نقر الإرهاب وتريد أن نعترف بشرعيتهم . لأنه حكم على بعضهم بالسجن . فهل تسمح لهذه الجماعة بأن تتمادى إلى حد قتل القضاة ؟ لا بد لى من حل هذه الجماعة .
ثم ضحك وقال : إنى أعرف ديتها ، إنها رصاصة أو رصاصتان فى صدرى .
وصدقت نبوءة النقراشى . إذ حين توجه إلى وزارة الداخلية حوالى الساعة التاسعة صباحًا ، وهم بدخول المصعد ، تقدم منه شاب يرتدى ملابس ضابط بوليس وأطلق عليه رصاصة من الخلف أصابت القلب وتوفى على الأثر . وكانت الوزارة من الخارج والداخل محروسة بما لا يقل عن مائتى شرطى مسلحين جميعًا بالبنادق الأوتوماتيكية . والغريب أن أحدًا من الذين كانوا فى بهو الوزارة وأمام المصعد لم يحاول أن يطلق على الجانى طلقة واحدة أو يحاول إمساكه !! ولعل هول المفاجئة أذهلهم . وخرج الضابط المزيف إلى فناء الوزارة محاولاً الهروب . ولكن قبض عليه وتبين أنه من جماعة الإخوان المسلمين .