وقد تابع الأستاذ العقاد حملته على شوقى وشعره ، فى الفصول الأخيرة لكتابه « شعراء مصر وبيئاتهم فى الجيل الماضى » ـ الصادر طبعته الأولى سنة 1937 ، والذى سبق لى تناوله وأرجأت ما تضمنه عن شوقى لحين الكتابة عن مدرسة وكتاب الديوان ، وفيه توسع الأستاذ العقاد فى تناول شعر شوقى فى أربعين صفحة .
ويأخذ الأستاذ العقاد على شعر شوقى فى هذا الكتاب ،أن شعر الصنعة قد ارتفع عنده إلى ذروته العليا ، وأن شعر « الشخصية » هبط إلى حيث لا تتبين فيه لمحة من الملامح ولا قسمة من القسمات .
ويضيف أن شعر الصنعة ليس كله على نهج واحد ، فمنه ما هو زيف فارغ لا يمت إلى الطبيعة بواشجة ولا صلة ، وليس فيه إلاَّ لفظ ملفق وتقليد لا حسن فيه ولا ذوق ولا براعة ، ومنه ما هو قريب إلى الطبيعة ولكنه منقول من القسط الشائع بين الناس ، ولا دليل فيه على شخصية القائل أو طبعه .
ومن هذه الصنعة ـ فيما يقول ـ كانت صنعة شوقى فى جميع شعره .
ومن المعروف أن الغزل حظ مباح لكل رجل ، ولكن المتنبى وحده هو الذى يقول حيـن يتغزل :
زودينا منم حسن وجهك ما دام فحسن الوجوه حال تزول
وصلينا نصلك فى هذه الدنيا فإن المقام فيها قليــل
« وهوـ فيما يقول ـ كلام طبيعة لا زيف فيها ، ولكنه كلام المتنبى الحكيم المعتد بنفسه العالم بمصير الحياة ومصير الجمال ، والحى الزاخر بزاد النفس الذى عنده ما يعطيه لمن يزوده بحسنه وصباه .
« وسوء الظن بالناس شعور يخامر جميع المجربين المحنكين الذين عركوا الزمان وخبروا تقلبات القلوب ونقدوا إلى خبايا السرائر ، ولكن المتبنى وحده هو الذى يقول حين يسىء الظن بالناس :
ومن عرف الأيام معرفتى بها وبالناس روى رمحه غير راحــم
فليس بمرحوم إذا طفروا به ولا فى الردىء الجارى عليهم بآثم
« وهو كلام طبيعة لا زيف فيها ، بل هو كلام تجريب لا شك فيه ، ولكنه تجريب المتنبى خاصة دون سائر المطبوعين وسائر المجربين ، لأنه الرجل المغامر الطواف الذى عاش فى زمان الدول الدائلة والمطامع الغادرة ، ولقى الناس فى ميدان الشح والتربص والمخاتلة وتعود أن « يتفلسف » فى تسويغ أخلاقه بفلسفة « الطبع لا بفلسفة الأخلاق ولا بفلسفة العرف ولا بفلسفة الدين » .
وفى هذا الإطار ، يمضى العقاد فيتمثل بأشعار للمتنبى تدل على الطبع الذى لا زيف فيه .
أما دواوين شوقى فلو قلبتها جميعًا ـ فيما يقول ـ لما وجدت فيها بيتًا واحدًا من هذا القبيل .
« فإذا عرفت شوقيًّا فى شعره فإنما تعرفه « بعلامة صناعته » وأسلوب تركيبه كما تعرف المصنع من علامته المرسومة على السلعة المعروضة ، ولكنك لا تعرفه بتلك المزية النفسية التى تنطوى وراء الكلام وتنبثق من أعماق الحياة » .
* * *
ويضيف الأستاذ العقاد أنه يخطئ من يظن أنه يعنى بشعر الشخصية أن يتحدث الناظم عن شخصه أو يسرد تاريخ حياته ، بينما المقصود أن يعبر الشاعر عن الدنيا كما يحسها هو لا سواه .
إن الشاعر الذى لا يعبر عن « شخصيته » بكلامه ، ليس بشاعر موفور الحظ من الطبيعة .
ويأخذ العقاد على شعر شوقى أنه ليس فيه ما يدل على مزية نفسية أو صفات شخصية لا يجارى فيها الآخرين ، ولا فرق فى شعره بين حديثه وقديمه ، ولا بين الموضوعات العامة منه والخاصة ، وأنه على كثرة ما مادح الأمير عباس الثانى ، لا يمكنك أن تعرف من هو هذا الأمير فى تلك المدائح الكثيرة ، وعلى كثرة ما نظم فى رثاء الكبراء والوزراء لا يمكنك أن تعرف الفرق بين أحد وآخر إلاّ فى عوارض وحواش لم تتجاوز العناوين ، أما الروايات التى نظمها ـ كقمبيز ـ فقد خلت من « الشخصيات » والتبست فيها ملامح الأبطال .
فإذا كان الشاعر لا يحس النفوس الحية ، فلن يحس الأشياء التى لا حياة فيها .
والرياض عنده والخمائل والجداول والأنهار والسماوات ، هى بعينها رياض الزوار والمواسم لا تزيد ولا تنقص .
بينما بيت واحد للبحترى فى الربيع ، يساوى كل ما نظمه شوقى فى ربيعياته ورياحينه . قال البحترى فى الربيع :
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
* * *
إن الشعر الصنعة ـ فيما يرى ـ قد بلغ ذروته العليا فى ديوان شوقى ، بينما شعر الطبع خلا عنده من مزية خاصة ينفرد بها .
قال شوقى فيما قاله فى الربيع :
آذار أقبل قم بنا يا صاح حى الربيع حديقة الأرواح
واجمع ندامى الظرف تحت لوائه وانشر بساحته بساط الراح
صفو أتيح فخد لنفسك قسطها فالصفو ليس على المدى يمتاح
والجس بضاحكة الرياض مصفقا لتجاوب الأوتار والأقداح
واستأنس من السقاة برفقة غر كأمثال النجوم صباح
رقت كندمان الملوك خلالهم وتجملوا بمروءة وسماح
…………
وأنت تطالع هذه القصيدة حتى نهايتها فلا تجد فيها ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ للربيع أثر ، بل وليس فى كل ربيعيات شوقى كلها ما يعدو هذه الأوصاف التى تقف عند الهوامش .
ولكنك تأخذ هذا الأثر ـ فيما يرى ـ من قول ابن الرومى يصف الرياض :
تلاعبها أيد الرياح إذا جرت فتسموا وتحنو تارة فتنكس
إذا ما أعارتها الصبا حركاتها أفادت بها أنس الحياة فتؤنس
أو تأخذه من قوله وهو يحس تارة حنين الأبوة للرياض المشمومة :
برياض تخايل الأرض فيها خيلاء الفتاة فى الأبراد
منظر معجب ، تحية أنف ريحها ريح طيب الأولاد
بل وترى الربيع الحىّ وتحسه من بيتين اثنين لابن الرومى ، ليس فيهما رنين ولا عذوبة مصطنعة ، ولكنك تحس أن قائلهما قد شعر بالربيع « الحيوى » فى أعماقه ولم يفته شىء مما يبثه فى عالم الحياة . يقول ابن الرومى :
تجد الوحوش به كفايتها والطير فيه عنيدة الطعم
فظباؤه تضحى يمنشطح وحمامه يضحى بمختصم
فلم تبق فى الدنيا حياة لم يشاركها ربيعها قائل هذين البيتين بلا حاجة إلى الزخرف وإلى التكلف فيما يرى العقاد .
أما بيئة شوقى ـ وهى فى الأصل موضوع الكتاب ـ فهى بيئة الترك « الحكوميين » المتمصرين الذين مسوا التفرنج ولم يتغلغلوا فيه ، وعنوا بالجامعة الدينية أشد من عنايتهم بالوطنية المصرية .
ويبدو للعقاد أن مصر التى كان شوقى ينظم فى تاريخها « هى مصر الأسر المالكة والعروش الحاكمة وليست بمصر الشعب والسلالات الوطنية ، أو هى التى يعنى بها رجل من رجال البلاط يقرن الحاضر إلى الماضى بهذه السلسلة « البلاطية » فى العصور كافة ، وليست مصر التى هى وطن لكل مصرى كبير أو صغير وحاكم أو محكوم . فإذا استعرضت قصائده التاريخية فهى قصائد « شاعر ملكى » ينتقل بهذه الصفة من عصر إلى عصر ومن دولة إلى دولة وينظر بهذه العين إلى الأسلاف أو من يسميهم الأسلاف ولا يـرى وراء ذلك « المصريين » أو المصرى الخالد بين جميع الدول . ولعله لم ينس البلاط وهو يصف السماء ومنازل « التشريفات » فيها فقال فى مدح النبى عليه السلام :
وقيل كل نبى عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلم
ويرى العقاد ـ فيما يضيف ـ أن شوقى كان « بلاطيًّا » فى شعره كله .
وبداهة لست أنتصر لسحب كل مزية من شوقى ، فقد كان شاعرًا فذًّا ، عاش ولا يزال حيًّا بروائعه رغم كل هذا الهجوم ، بيد أنه يُحسب لما أثاره العقاد وزميلاه من تجديد ، قد أحدث أثرًا حتى فى شعر شوقى ذاته ، وكان نقلة لها ما بعدها فى مجال الشعر .