عصر بن الرومى
الحالة الاجتماعية
الفوضى السياسية تؤدى إلى الخراب ونضوب الأرزاق إذا طال بها الزمن ، ومع ذلك فإن الفوضى لا تمنع الترف مثلما لا تمنع الفساد ، بل كثيرًا ما تكون الفوضى من أسباب الترف والمغريات به .
ويصدق على القرن الثالث الهجرى الذى عاش فيه ابن الرومى ، أنه قرن الفوضى والترف ، بلغا غايتهما فيه ، وسرت إليه جرائر العصور الأولى فأدت إلى الخلل في السياسة والبذخ في المعيشة .
وورث القرن الثالث الهجرى ، فيما يسوق الأستاذ العقاد ــ ورث حضارات العرب والفرس والروم وأساليب اللهو في هذه الأمم ، وتجمعت الأموال في أيدى الأمراء وجباة الخراج وأصحاب التجارات ونوافل الشهوات ، وأصبح لكل ضرب من ضروب اللهو علم يعرفه علماؤه ، واستشهادًا بذلك أورد الأستاذ العقاد بعض ما ورد تفصيلاً لهذا اللهو ــ في مروج الذهب للمسعودى .
واقتدى الأوساط والفقراء بالعلية والأغنياء ، فكثرت بيوت القيان والخمر ، وشاع اقتناء الجوارى والغلمان ، واستبيحت اللذات بكل أنواعها ، المألوف وغير المألوف . وانكشفت الوجوه وقل الحياء وخف وقع الهجاء والبذاءة على الأسماع .
ويتخير الأستاذ العقاد للدلالة على ما تفشى فى ذلك العصر ـــ بعض أبيات من بائيّة لابن الرومى وصف فيها عيش الكتاب والموسرين . قال :
أتراني دون الأولى بلغوا الا مال من شرطة ومن كتاب
وتجار مثل البهائم فازوا بالمنى في النفوس والأحباب
خير ما فيهم ولا خير فيهم أنهم غير آثمي المغتاب
ويظلون في المناعم واللــذ ات بين الكواعب الأَتراب
لهم المسمعات ما يطرب السا مع والطائفات بالأكواب
وفى هذه القصيدة التى اجتزأنا القليل مما أورده الأستاذ العقاد منها ، فيها « وصف وافٍ لمناعم العيش فى بيوت الطبقات الموثرة ومعظمها من « الموظفين » . وفيها ـ مع هذا الوصف الوافى ـ تفسير واضح لتهالك الناس على العمالة والكتابة وسائر الوظائف التى يأتى رزقها من المرتبات والجبايات والرشى والأسلاب ، وفيها ـ مع هذا وذاك ـ تفسير لنقمة الطبقات المحرومة وللثورات التى كانت تهب لرد الظلامات وإنصاف الفقراء ، وأى شىء أدل على طلب الثورة والتلهف على قلب الأحوال والتأهب لتلبية الداعين إلى الشغب من قول شاعر وديع كابن الرومى :
لهف تمسى على مناكير للنـــ كر غضاب ذوى سيوف عضاب
تغسل الأرض بالدماء فتضحـى ذات طهر ترابها كالمــلاب
من كلاب نأى بها كل نائ عن وفاء الكلاب غدر الذئاب
« ولا جرم يكون ذلك العصر عصر الحيرة والانتظار ، ولا جرم تتأهب فيه النفوس لدعوة الجماعات السرية وتتعلق الآمال بالمهدى المنتظر والمصلح الأكبر الذى يغسل الأرض
بالدماء .. »
وكان أصحاب المذاهب يمزجون المقاصد الاجتماعية بالمقاصد الدينية ، ويعالجان انسحاق الفقراء بالدعوة إلى المساواة والتمرد على الحكام .
على أن هذه الأصوات كانت تمر بالدولة وهى باقية سليمة منها بعض السلامة ، وكانت الثورات بتراء لا وجهة ولا خطة مرسومة لها ، وتعوزها عناصر الدعوة المشروعة .
هذا بينما كانت القصور سادرةً في غيها قلّما تحس بأثر هذه المشكلات الاجتماعية ، وكان أقصى ما يرجوه صاحب العلم والأدب والفضل والكياسة ــ أن يصبح نديمًا لملك أو مربّيًا لابن ملك ، وهى صناعة لم يكن من السهل أن يحذقها الأديب .
وقد نقل ياقوت الحموى في معجم الأدباء غير قليل من هذه الطُرف .
ويضيف الأستاذ العقاد لهذه الطُرف التى انتقى بعضها ، أنه « كذلك كانت مجالس المجتمع العالية مظنة للزيادة والتأليف في بعض أجزائه ، ولكنه يدل في جملته على المناقب والخصال التى كانت تطلب من النديم في ذلك الزمان ، وترى من هذا الحديث كيف كانت سنة الفرس غالبة على مجالس الطرب وآدابها ومواعيدها وأدواتها ، كما ترى ذلك في أوصاف المهرجانات والنواريز ( جمع نيروز وهو رأس السنة الفارسية ) وأعياد الطبيعة ومنازه (متنزهات) الرياضة والألعاب والصيد والطرد وسائر المراسم والأزياء» .
وبعد ؛ فإذا كانت الحالة السياسية قد تلخصت في سوء الظن ، فإن الحالة الاجتماعية تلخصت في إغتنام الفرصة ، ولكان لكلٍّ من هذا وذاك ظله وصداه !