فى الأزهر
ألممنا سلفًا بأحوال الأزهر حتى أوائل النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وما كان يحوم فيه من صراع بين طلاب الإصلاح المجددين ، وبين شيعة الجمود والتقليد . وكيف قام ولاة الأمر بغسل يدهم بتعيين شيخ يتولى عنهم ستر نياتهم حول الإصلاح ويدفع عنهم ـ بجموده وتقليده ـ شبهات العدوان على حرمات هذا المعهد العتيق .
كانت الحكومة تخشى أن تتعرض لهذه الشبهات ، سيما وقد تكاثرت عليها الشبهات من سياستها الأجنبية ، وأوشكت أن تكون رهينة السلطان الأجنبى فى القضاء والتشريع وفى « الامتيازات الأجنبية » ، ولذلك آثرت الحكومة أن تتلقى طلب الإصلاح من أهله فتلبيه.
إلاَّ أنه بوقوع الاحتلال ، وسيطرة المحتلين على دواوين الحكومة بدعوى الإصلاح والتنظيم ، فإن ذلك لم يدع مكانًا تعمل فيه الحكومة منطلقة اليدين من القيود التى فرضت عليها ، غير الجامع الأزهر وديوان الأوقاف والمحاكم الشرعية ، وهى الجهات الدينية التى أمسك المحتلون عن التعرض لها إلاَّ فيما يتعلق بميزانية الدولة ـ كوظائف القضاة الشرعيين وموظفى المحاكم الشرعية.
حينذاك لم يعد أمام الخديو سوى أن يدفع عنه تهمة العجز عن الإصلاح والتنظيم فيما بقى بين يديه من الدواوين والمعاهد ، إلاَّ أنه مع هذه الضرورة التى تعفيه من تهمة التهجم على حرمة المسجد وتقاليد الدين ، فإنه دبر مع طلاب الإصلاح « حيلة شرعية » للبدء فى الإصلاح المطلوب ، واتفقوا على استفتاء شيخ الأزهر والمفتى فى مسألة العلوم التى يجوز تدريسها بالجامع ولا تعتبر العناية بها فى أماكن العبادة مخالفة للتقاليد الإسلامية ، وكلفوا عالمًا تونسيًّا فاضلاً ـ هو الأستاذ محمد بيرم ، بأن يتوجه بهذا الاستفتاء إلى الشيخ محمد الإنبابى شيخ الجامع الأزهر آنذاك (1305 هـ ـ 1887 م) ـ فكتب إليه سائلاً هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء (الكيمياء) وغيرها من سائر المعارف لاسيما ما ينبنى عليها زيادة قوة الأمة ، وهل تجب طائفة من هذه العلوم على طائفة من الأمة وجوبًا كفائيًّا على نحو ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالى ونقله عنه علماء الحنفية وأقروه. وأنه إذا كان الحكم فيها كذلك ، فهل يجوز قراءتها مثلما تقرأ العلوم الرائجة بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين.
ولم يهمل الأستاذ الإنبابى الإجابة ، وهو عالم بمصدر الاستفتاء ، وجاء فى جوابه أنه يجوز تعلم هذه العلوم ، بل ومنها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية ، ويجب من ثم وجوبًا كفائيًّا . واستشهد بدوره بما قاله الإمام الغزالى ، وأضاف أن تعلم ما زاد عن ذلك فتعلمه فضيلة ، ولكنه استثنى فى علم الهيئة ما يدخل فى البحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وسيرها وعلم التنجيم والبحث عن الحوادث السفلية ، فإنه حرام كما قال الغزالى . أما صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها كما فى إحياء علوم الدين ، فلا منع فيه ، كذلك الوقوف على خواص المعادن والنبات ، وما يؤدى للتمكن فى علم الطب ، ومعرفة الآلات النافعة ، ولكن ليس على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام لأنه يؤدى إلى الوقوع فى العقائد ، إلى جانب بعض التحفظات على ما ارتأى أنه يدخل فى باب المحرم .
وبعد أسبوعين من صدور هذا الجواب من شيخ الأزهر (الشافعى) ، صدرت الموافقة على مضمونه من مفتى الديار المصرية وهو حنفى .
ويستطيع الناظر فى تضاعيف هذه الفتوى ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ أن يلمح منها أنها تفتح الباب فيما أباحته للتفرقة بين طريقة وطريقة وغاية وغاية. ولاسيما فى المنطق والطبيعيات ، فلا يشق على المعارض فى تدريس علم منها أن يؤجل تدريسه على الأقل إلى أن يثبت خلوص الكتاب المقرر من الشوائب الممنوعة ، وابتعاد المدرس له عن مذهب الفلاسفة أو مذهب المنجمين ، ولا يصعب على المعترض أن يحسب الأنباء عن مواعيد الكسوف والخسوف والقرانات الفلكية المحققة افتياتًا على الغيب لجواز الخطأ فيها على الناظر كما جاء فى الفتوى .
وتلك كانت النية ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ منذ صدرت الفتوى اضطرارًا بهذا التحفظ والتقييد ، فإن الشيخ قد أصدرها وهو ينوى تعطيل برنامج الإصلاح بأمثال هذه الحجج التى لا تعيى أحدًا يريدها بعد السير فى خطوات التنفيذ العملية . وقد عاد الشيخ محمد عبده من المنفى واقترح على الشيخ الإنبابى هذا تدريس مقدمة ابن خلدون فلم يجبه إلى مقترحـه وقـال : « إن العادة لم تجر بذلك … » ثم سكت حين أراد الشيخ محمد عبده أن يبين له وجهة المشابهة بين المقدمة ، وما يدرس من كتب المتأخرين على عهده ، ولم يرد أن يدخل فى الحديث.
* * *
لا جرم بكون صدور هذه الفتوى العقيمة ـ هو كل ما تم من « مشروعات » فى سبيل الإصلاح المغلق أبوابه ، فظلت حبرًّا على ورق إلى أن أُنشئ فى الأزهر مجلس خاص لوضع الفتوى موضع التنفيذ .
وكان الشيخ محمد عبده عضوًا فى هذا المجلس ، وعُيِّنِ للأزهر وكيلٌ ذو كفاية وخلق و« شخصية قوية » ـ هو الشيخ حسونة النواوى ، وهو من أصدقاء الشيخ محمد عبده ، ومن أركان المدرسة الجديدة من بين العلماء المجددين ، واتفقت الآراء على اختياره ليحول دون تعطيل « المشروعات » .
وكان قد مضى على اتصال محمد عبده بالأزهر ـ عند صدور هذه الفتوى ـ نيف وعشرون سنة ، منذ وصوله طالبًا حوالى سنة 1866م ، فاجتهد لنفسه فى البحث عن أساتذته ودروسه ، ثم أغناه حضور الأفغانى فيما يحتاج فيه إلى المعلم ، وأغناه ذكاؤه وصبره فى الاستفادة مما يتلقاه .
وقد مَرَّ بنا ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ كيف كان الناشئ محمد عبده يُبتلى بالنقيضين على مفترق الطريق فى الأزهر ، بين زاوية الجمود السحيقة فى كهف الشيخ محمد عليش رغم كونه صالحًا عفيفًا ، وبين طرف التجديد يترامى إلى غاية مرماه فى ساحة جمال الدين الأفغانى.
وروى أن ابن الشيخ عليش ، أبلغ أباه طالبًا بالأزهر يحضر على جمال الدين ويقرأ كتب المعتزلة والمتكلمين ، فحمل الشيخ عكازه وذهب مع ابنه وأصحابه الشبان إلى حيث الطالب الجرىء (محمد عبده) حيث دارت مشادة تطورت إلى مشاجرة وتماسك ، مما ألجأ الطالب محمد عبده إلى اصطحاب عصاه كلما ذهب إلى حلقته ، ردًّا لعادية الزملاء المستقويين بحماية شيخهم ! .