مشكلة الشر
ربّ ورد إلى الخاطر أن هذا الفصل تكرارٌ لكتاب « إبليس » الذى تناولناه سلفًا للأستاذ العقاد ، بيد أن هذا الخاطر يزول فورًا ، لأن كتاب « عقائد المفكرين فى القرن العشرين » أسبق صدورًا بعشر سنوات من كتاب « إبليس » ، فقد صدر كتاب « عقائد المفكرين » عام 1948 ، بينما صدر كتاب « إبليس » عام 1958 ، وعلى ذلك فلا ينبغى لنا أن نتوقع أن هذا الفصل عن « مشكلة الشر » محض تكرار أو ترديد لما ورد لاحقًا بكتاب « إبليس » .
يبدأ الأستاذ العقاد هذا الفصل بأن مشكلة الشر ، هى مشكلة المشكلات في جميع العصور.
وأن القرن العشرين لم يطرأ فيه طارئ من الشر لم يكن معروفًا قبل ذلك إلى أبعد العصور التى تعيها ذاكرة الإنسان .
فالناس قد عرفوا من قديم ـ الحروب والفتن، وعرفوا العوارض المتكررة ، وعرفوا المظالم ودروب العدوان ، وقد ثقل أو خف منها ما ثقل أو خف فى القرن العشرين ، إلاَّ أنه لم يَعْرف نوعًا جديدًا من الشر لم يكن معهودا فيما قبله .
على أنه من آفات القرن العشرين ، أن أسباب الشكوى فيه ــ أكثر وأعظم من جهتين :
فحروبه الطاحنة شملت الكرة الأرضية وعمت الأقوياء والضعفاء ، ويخشى فى كل وقت أن تُستأنف .
ولأن النفوس فى القرن العشرين تدعى الحقوق وتلح في المحاسبة ، فلم يكن مستغربًا فيما مضى أن يداس حق إنسان أو جماعات من الناس ، ولم يكن هنالك محاسبة لأصحاب السلطان على الشرور والمظالم، ولكن القرن العشرين أتى بما يسمح بالاعتراض ، وبالمطالبة بالحق بل والجزاء .
وفحوى ذلك أن مشكلة الشر تفاقمت فى القرن العشرين من جانبين :
جانب الضخامة في الشرور.
وجانب الإلحاح في الإدعاء والمحاسبة .
وترتب على ذلك أن السائلين صاروا أكثر سؤالاً ، وأجاب المفكرون الغربيون كثيرًا على هذا السؤال ، وتفرعت بهم الخواطر ..
منهم من قال إن الشر وَهْمٌ يزول ، ولا بقاء له مع الخير.
ومنهم من رأى أن الشر لا وجود له بذاته ، وإنما هو غياب الخير أو نقصه.
ومنهم من رأى أن الشر ضرورة ناجمة من التقاء الخيرات الكثيرة .
ومنهم من رأى أن الشر تربية نافعة للآدميين ، وأن تجارب التاريخ أثبتت أن الشدة أنفع لهم من اللين الرخاء فى كثير من الأحيان.
ومنهم من رأى أن الشر « خير » يوضع فى غير موضعه ، الاعتراض عليه كالاعتراض على فيضان الأنهار.. فهى خير فى لباس شر !
ومنهم من رأى أن حرية الإرادة نعمة إلهية ، ولا تكون إلاَّ فى عالم فيه الخير والشر.
ومنهم من رأى أن الشر هو تمام الخير الذى يوجد معه وينعدم بانعدامه ، وأنه لا معنى للشىء بغير نقيضه ، فلا شجاعة بغير خطر ، ولا معنى للصلح بغير إساءة ، وهكذا .
ومنهم من رأى أن الفروق بين الأشياء لازمة ، ولولاها لما وجد شىءٌ مستقل عن شىء ، ومع وجود الفروق لا مناص من الشكوى .
وجدير بالذكر ، أن جميع هذه الآراء المتباينة ، أُبديت من عديدين ، وفى مناسبات ومواضع مختلفة ، وعبر وسائل متغيرة ـ يحتاج ولاشك إلى جهد عريض ، وهذا هو ما بذله الأستاذ العقاد وأشار إليه فى ختام كتابه .
إن زبدة الدراسات والمقارنات التى طرحت ، أن الحروب أفادت كما أضرت ، ووصلت فى جانب وقطعت فى جانب آخر ، بل قد يكون النفع فيها أكبر من الضرر .
أنفع المخترعات والمعارف العلمية جاءت عرضًا بمناسبة التنافس على صنع السلاح الفعال . وتستطيع أن ترى ذلك فى مبلغ الإتقان الذى شمل الطائرات وسرعتها ، أو إفادة الذرة فى جوانب عديدة غير جانب الشر الذى دَعَا إلى صنع القنبلة الذرية !
قال الأستاذ «لويس ـ Lewis » صاحب كتاب« مشكلة الألم ـ The problem of pain» « إن القدرة على كل شىء معناها القدرة على ما هو ممكن فى أساسه … »
وقال الأستاذ سيدنى دارك ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ قال فى كتابه : «الدين فى إنجلترا غدًا ـ Religion in the England of Tomorrow » إننا نعيش بين العجائب والخفايا ، وبغيرها تصبح الحياة ثقيلة مملة .
وكتب « جورج سانتسبرى ـ Saintabaury » إن حرية الفكر المعهود لا تسود كتابًا واحدًا ولا صفحة واحدة دون أن تقرر ـ أو يبدو فيها ـ أن ما فوق الطبيعة ينبغى أن يخضع لمقاييس الطبيعة .
أما الأستاذ « مالكولم جرانت » ـ فقد أورد فى كتابه « حجة جديدة فى الكلام عن الله والخلود ـ « A New Argument for God and Survival ـ أنه حين نبدأ بفكرة الإله الرحيم ، فإنه يتحدانا الكون الناقص ، ولا سبيل أمام تحديه إلاَّ ثلاثة مسالك مفتوحة :
إنكار وجود الله كما فعل المسرفون فى الإنكار.
أو إنكار قدرته المطلقة على أحوال الطبيعة كما فعل « ميل » .
أو إنكار صحة وجود الشر كما فعلت « مسز إدى » .
على أن هذه المسالك الثلاثة ـ فيما قال « مالكولم » ـ غير مقنعة ، ولا يبقى إلاَّ القول مع « هيوم » إن الله بمعزل عن سعادة الإنسان وشقائه ، أو أن نعرف أسبابًا مقنعة بأن الشقاء الذي فى الكون واعتقاد وجود الله لا يتناقضان.
* * *
بعد ذلك عرض الأستاذ العقاد ـ لما قاله « أيونج » مدرس الأخلاق بكامبردج فى كتابه عن « مسائل الفلسفة الأساسية » . لينتهى إلى أن معظم الحلول التى يرجحها أوساط المفكرين في القرن العشرين ، ليس فيها شىء مبتكر لم يُسمع من قبله ، وأن الجديد فى المسألة هو من الناحية الشعورية كما أسلف ، ويدور حول وجهة الشعور لا على أصله ، فقد كانت شرور الحروب العالمية أوسع ميدانًا وأشد فى إثارة السخط الذى لم ينصرف دفعة واحدة إلى التمرد والإنكار، واستخلص الباحثون من استقراء أحوال الحروب أنها تضر وتنفع ، وتقطع وتصل ، وأن أضرارها لا تزيد شيئًا على طبيعة البشر .
وأخيرًا فإن القرن العشرين قد ترك مشكلة الشر حيث هى من الوجهة الفكرية الفلسفية ، أما من الوجهة الشعورية فقد كان الشعور بأن شرور العالم لا تطاق ـ صدمة من جانب ، ودفعة من جانب ، فيما لا مفر إزاءه من الإقرار بان مشكلة الشر عقدة باقية .