الأعمال
يلاحظ الأستاذ العقاد ملحوظة فى محلها ، أنه منذ الفتح الإسلامى لم يعزل والٍ واحد من ولاة الشام لشكوى الرعية منه ، وعلى العكس لم ينج والٍ واحد من ولاة العراق من العزل للشكايات الكثيرة التى كانت ترد إلى دار الخلافة .
وقد يبدو هذا عجيبًا ، ولكن يزول العجب إذا نحن نظرنا فى القطرين إلى ما كان يقع قبل الفتح فى حصة الدولة البيزنطية ، وما كان يقع فى حصة الدولة الفارسية .
كانت الدولة البيزنطية طويلة العهد بالنظم الإدارية والحكومية ، وفيها مدن من عواصم الدولة الكبرى وعليها رؤساء من المميزين فى الدولة بشارات السياسة والدين ، وقد فتحها المسلمون على شروطهم المحدودة للذميين والمعاهدين ، لأن أهلها كانوا جميعًا من أهل الكتاب ، فلما استقر الأمر للدولة الإسلامية بعد زوال الدولة البيزنطية لم يحدث من جانب الرعية مقاومة إجماعية .
يضاف إلى ذلك أن الشام كانت أقرب للاستقرار لسبب آخر ، هو أن حدودها جميعًا فى بلاد الدولة الإسلامية ، إلاَّ الجانب الذى يلى تخوم الدولة البيزنطية . ثم كانت سياسة الفاروق عمر أنفع السياسات للشام خاصة ، فانتظمت الشام ومعاقل الدفاع على شواطئها وعند أطرافها .
ولم يتغير الأمر فى خلافة عثمان إذا ما نحينا الإشاعات عن ضعف عثمان ، فقد كانت سياسته البحرية فى الشام أقوى السياسات ، ولم يتم فتح قبرص التى استأذن فيها معاوية أيام الفاروق ـ إلاَّ فى ولاية عثمان .
وكانت هذه حال الشام يوم تولى معاوية إقليمًا منها فى عهد الفاروق ، ثم تولاها جميعًا على عهد عثمان .
وبخلاف ذلك كانت حال العراق من جميع الوجوه ، فلم تكن فيها معاهدات ذمية مع الرعية ، ولم تكن حدودها الشرقية والشمالية آمنة فى كل زمن ، وكانت عرضة للحملات والفتن من البصرة إلى أرمينية إلى خراسان ، ومن ثم لم تفرغ لها الدولة الإسلامية قوتها كما سلكت فى الشام .
وعلى هذا كان العراق ، أو كانت الجزيرة كلها ، أطرافًا مهملة فى أيام الدولة الفارسية ، فلم يكن لها نظام من نظم الإدارة المتناسقة كما كان الأمر فى الشام ، ولم تنضج علاقات الحاكمين بالمحكومين كما نضجت فى الشام مع المعاهدين الذميين .
وأعضل من ذلك كله ، فيما يرى الأستاذ العقاد ، أن الفتح الإسلامى جاءها بمجتمع مختلف منقول إليها بحذافيره . فقد انتقل إليها رهطٌ من القادة وذوى الرئاسة ليقيموا فيها ويزرعوا الأرض ويتاجروا بين أنحائها ، وعاش إلى جانبهم ألوف من الجند المقيمين والجند العاملين ، وكلهم لهم أعطية من بيت المال ، كان تقسيمها مشكلة من مشكلات هذا المجتمع المنقول . ولذلك كله كثرت الشكايات من الولاية فى العراق ، وثقلت هذه الشكايات على الفاروق رغم هيبته وعزمه واقتداره ، وزادت على زمن عثمان .
* * *
بدأ معاوية أعماله فى الشام وهى بتلك الحالة من الاستقرار بالقياس إلى جميع الولايات الإسلامية الأخرى ، وجاءت أعماله تدرجًا منذ عاون أخاه « يزيد » حتى خلفه ، وأكسبه التدرج مرانًا للعمل الذى يليه ، أما الأعمال « الحربية » فكان يتولاها أبو عبيدة بن الجراح ثم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، حيث لم يقم معاوية قط بقيادة حربية مستقلة حقق فيها نتيجة حاسمة .
وعند ما نشبت الفتنة الوبيلة ـ وهو بمعزل عنها ـ وقٌتل فيها عثمان ، تذرع وأسرف كل الإسراف فى التذرع فى اتخاذه من مقتل عثمان ذريعة للخروج على الإمام علىّ وإنكار
بيعته !
وعلى قدر ما لهج معاوية بفاجعة مقتل عثمان فى تعديه على بيعة الإمام علىّ والخروج عليه ، سكت عنها وأغفلها تمامًا حين ولى الأمر ، ولم يذكرها إلاَّ إذا ذُكِّرَ بها مثلما فعل أولاد عثمان ، فتذرع بتعلته الواهية التى مرت بنا ، وهى تدينه بما يحاول الاعتذار بها عنه .
أضف إلى ذلك أن جند الشام كانوا بعيدين عن معمعة الفتنة وعواقبها .
* * *
والواقع أن معاوية لم ينته بالحرب ولا بالسياسة إلى موقف فصل فيما افتعله للخروج على الإمام علىّ وسعى به إلى الخلافة .
ففى صفين حلت به الهزيمة ليلة الهرير ، وعندما أيقن بسوء العاقبة لجأ بمشورة عمرو إلى رفع المصاحف والنداء بالتحكيم .
أما التحكيم ، فلم يكن ذا خطر فى حسم النزاع ، أيًّا كان تصرف الحكمين ، ما كان وما لم يكن . ففى كل الفروض المحتملة كانت العواقب صائرة إلى ما صارت إليه أن يمضى كل من المعسكرين فى طريقه .
أما الواقعة الحاسمة فقد وقعت بمقتل الإمام علىّ رضى الله عنه ، لا لفضل لمعاوية ، وإنما بفعل المقادير حيث نجح الخارجى عبد الرحمن بن ملجم فيما فشل فيه من اتجها لمقتل معاوية وعمرو بن العاص .
كذلك كان تصالح الحسن ، فقد آل إليه معسكر ملىء بالاضطرابات والأهواء والتنافرات والمجادلات ، فكان الاتفاق مع معاوية على شروط نكل عنها معاوية فيما بعد .
* * *
وقد خلصت الخلافة لمعاوية حين امتنع طلب البيعة من معارضيه لأنهم كانوا متفرقين بلا رئيس منهم يرشح نفسه للخلافة أو ينهض لها بحجة .
ولا شك فيما يرى الأستاذ العقاد ، أن معاوية قد استفاد منذ اللحظة الأولى لإمارته ، من كل ما يفيد فى حكومة الشام ، فأبقى ما لا غنى عنه من نظم الإدارة ، وتوسع فيه وزاد عليه ، وأبطل ما لا بد من إبطاله .
ووكل الإدارة المالية إلى القائمين بها فى أيام الدولة البيزنطية ، وعلى رأسهم « سرجون بن منصور » ، ثم ابنه « منصور بن سرجون » ، ووكل الإدارة الكتابية إلى عبد الله بن أوس الغسانى ، وهو من وجوه الغساسنة أصحاب الملك القديم فى الشام .
ونظم البريد وتوسع فيه للاطلاع على أخبار الأقاليم وإبلاغ الأخبار إليها .
وأنشأ ديوان الخاتم لمراجعة الحساب بين العاصمة والولايات .
وعزز بناء الأسطول بتجديد مصانع السفن فى عكا .
واستجلب من فارس كل عامل نافع فى مسائل الخراج والإحصاء .
وعنى بتسجيل المواليد والوفيات لتقسيم الأعطية والأرزاق .
وجعل للجند عملاً يصرفه عن التبطل والشقاق ، فداول بينهم مواعيد الحراسة فى الصوائف والشواتى .
وبرز حزم معاوية فى تدبير شئون ملكه ، مع ما اشتهر به وساسة العصر من الكلف بمناعم العيش والتهافت على المتع والملذات ، وما اشتهر هو أصلاً به بالكلف فى بيته والزهو بالثياب الفاخرة والحلية الغالية ، وكان يأكل ويشرب فى آنية الذهب والصحاف المرصعة بالجواهر ، ويأنس للسماع واللهو ولا يكتم طربه بين خاصة صحبته « لأن الكريم طروب » .