رقم هاتف المكتب

٩٩١ ٥٨ ٠١٠٠٠٠

البريد الإلكتروني

[email protected]

أوقات العمل

الأحد إلى الخميس: ٩ ص - ٣ م

اصطناع الحيلة

 

     إلاَّ أن معاوية ، فيما يقول الأستاذ العقاد ، كان يصطنع الحيلة التى تجديه فى كفاح خصومه ، وإن لم تكن من قبيل الغلبة بقوة العقل وصولة « الشخصية » الطاغية .

    كانت له حيلته التى كررها وأتقنها وبرع فيها واستخدمها مع خصومه فى الدولة من المسلمين وغير المسلمين ، وقوام هذه الحيلة مداومة العمل على التفرقة والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشبهات فيما بينهم وإثارة المحن فيهم ، حتى وإن كانوا من أهل بيته وذوى قرباه .

    كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوى خطر على وفاق ، وكان يساعده على بلوغ مرماه من بث الفرقة والتخذيل وإثارة الشبهات بينهم ، التنافس « الفطرى » الذى جُبل عليه ذوو الخطر ، الأمر الذى أعانه على الإيقاع بينهم كالذى كان بين المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، ويجرى فى ذلك على خطة فحواها الكيد بكيدهما كما يحبان أو يبغيان .

    وكان دأبه فى الوقيعة بين أهل بيته كدأبه فى الوقيعة بين النظراء من أعوانه ، فلم يكن يطيق تآلف بنى آميه من غير بيت أبى سفيان ، ولم يكن يهدأ له بال إلاَّ بعد أن يوقع بين آل عمومته من بنى العاص .

    أورد ابن الأثير فى تاريخه ضمن أخبار سنة 54 هـ ، أن معاوية عزل سعيد بن العاص عن المدينة واستعمل بدله مروان بن الحكم ، وكان سبب ذلك أن سعيد تباطأ فى تنفيذ أوامره بهدم دار مروان وقبض أمواله كلها و بأن يقبض منه فدك وكان قد وهبها له ، وراجعه سعيد حين أعاد معاوية أوامره ، فعزل سعيد عن المدينة وولى مروان وكتب إليه يأمره بأن يهدم دار سعيد بن العاص ويقبض أمواله ، فنهض مروان لأداء المهمة ، وأخذ الفعَلَة لهدم الدار ، فلما عاتبه سعيد فيما ينتويه ، رد عليه بأنه كان سيفعل لو كلفه معاوية بهدم داره ، هنالك أظهر سعيد كتابى معاوية إليه اللذين يأمره فيهما ويعيد الأمر بهدم دار مروان ، ولكنه لم يفعل . فلما رأى مروان ما كتبه معاوية خجل من نفسه ، واستغرب من عدم إخبار سعيد إياه بذلك ، فأبدى له سعيد أن معاوية يريد الإيقاع بينهما ، فأسف مروان وعاد دون أن يهدم دار سعيد . وكتب سعيد إلى معاوية يبدى عجبه بما يصنع أمير المؤمنين فى قرابته ليضغن بعضهم على بعض ، فاعتذر إليه معاوية ، ثم سأله حين قدم عليه بالشام عما باعد بينه وبين مروان ، فقال : خافنى على شرفه وخفته على شرفى .

 

    ومضى معاوية على هذه الخطة التى لا تتطلب حظًّا كبيرًا من الحيلة ، ولعلها تناقض الدهاء بما ينكشف من أمرها وعللها ، بيد أنه غلبت عليه رغبته فى أن يجعل كل رجل فى دولته حزبًا منابذًا لغيره ، على نظام « فرق تسد » !

    وكانت خطة التفرقة عامة عنده فيما يورد الأستاذ العقاد ، لا يقصرها على الخصوم بدفعهم إلى ضرب بعضهم بعضًا ليتقى شر كلٍّ منهم بشر الآخر ، بل كان يتوخى هذه الخطة مقدمًا ومؤخرًا وبين كل فريقين فى كل حال وفى كل موقف وكأنها غرض مقصود لذاته !

    وقد بدأ معاوية هذه السياسة العامة على عهد عثمان ، فخص المهاجرين بدعوته قبل رجوعه إلى الشام ، ومما قاله لهم : « يا معشر المهاجرين وولاة هذا الأمر ولاّكم الله إيَّاه فأنتم أهله ، وهذان البلدان مكة والمدينة مأوى الحق ومنتهاه وإنما ينظر التابعون إلى السابقين والبلدان إلى البلدين فإن استقاموا استقاموا وأيّم الله الذى لا إله إلا هو .. لئن صفقت إحدى اليدين على الأخرى لا يقوم السابقون للتابعين ولا البلدان للبلدين ، وليسلبن أمركم ولينقلن الملك من بين أظهركم ، وما أنتم فى الناس إلاَّ كالشامة السوداء فى الثور الأبيض .. » .

    وقد سلك معاوية ذات الخطة حين قدم إليه الأنصار بعد أن بويع بالخلافة ، فجعل يدعو كلاًّ منهم باسمه إلى حضرته بمشورة عمرو بن العاص ، ليوحى إليهم بأنه يختصهم ويقدمهم.

    ولم تقف هذه الخطة عند التفرقة بين مكة والمدينة ، فعمد إلى أهل مكة والطائف ففرق بينهما حين آثر الثقفيين ـ من الطائف ـ بزلفاه ، فكانت الطائف على عهد معاوية وخلفائه كالحرس على أهل مكة ، مثلما قسم الأمويين بين بنى حرب وبنى العاص ، وقسم بن العاص بين بيت سعيد بن العاص وبيت مروان بن الحكم .

 

*         *         *

 

    ومن خطط التفرقة التى استحسنها معاوية فى وقتها ، وساءت عقباها من بعده ، التفرقة بين اليمانية والمضرية ، فكان بينهما من النزاع ما عانى منه باقى خلفاء الدولة الأموية .

    وقد كانت العصبية فى القبائل العربية طبيعية فيهم لا تهمل فى حساب المنازعات والمناظرات ، وغير صحيح ردّ العصبية بين اليمانية والمضرية إلى الانتصار لبنى أميه أو بنى هاشم ، فقد كان بنو هاشم وبنو أميه جميعًا من قريش ، وإنما مرد ذلك إلى العصبية الشائعة بين القبائل العربية .

    فالنزاع بين اليمانية والمضرية ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ لم يكن نزاعًا على فخر النبوة ، ولا على فخر الخلافة عند بداية أمره ، وإنما كان نزاعًا بين سلاحين أو بين جيشين متنافسين فى مكان واحد ، ومعاوية كان يريد هذا النزاع ، بيد أنه لم تكن له فيه خطة ثابته غير التفرقة بينهم ، وطابت له هذه السياسة فاستمرأها ، ولكن كان من عاقبتها ضياع الدولة الأموية كلها بعد جيلين .

*         *         *

    وقد كان من أبرع ما برع فيه معاوية من ألوان الدهاء ، إلقاء الشبهة بين خصومه ، فى زمن كانت فيه هذه الشبهات من أيسر الأمور ، وقد احتال بشىء من هذه الخطة فى استمالة أحد البطارقة فى دولة الروم ، واحتال بمثل هذه الحيلة على « قيس بن سعد » حتى أوقع الريبة منه فى نفس الإمام ، وساعدته الحوادث على خلق هذه الريبة على نحو ما رأيناه فى عبقرية الإمام ، الأمر الذى حدا بعلىّ فى النهاية إلى عزل « قيس » عن ولاية مصر وهو كاره لذلك ، واستبداله بمحمد بن أبى بكر ، وقد بلغ معاوية بهذا الدس بغيته ، بتنحية أكفأ قادة الإمام عن مصر ، بما كان لذلك من توابع رأيناها فى عبقرية الإمام ، مكنت له ولعمرو بن العاص فى مصر .  

    وكانت هذه الحيلة ـ حيلة الشبهة ـ من أنجح الحيل فى سياسة معاوية مع خصومة ، وقد نجحت ونجعت هذه الحيلة بفضلين : فضل التدبير ، وفضل الحوادث التى ساعدت هذا
التدبير . ( يتبع )

المقالات الموصى بها

اكتب تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *