خدعة التحكيم !
كان رفع المصاحف على الرماح ، إنقاذًا لمعاوية وصحبه من هزيمة محققه وضحت معالمها ، ولكن الدعوة إلى التحكيم صدّرت أزمة طاحنة إلى معسكر الإمام ، وفرقته فرقًا كادت تتقاتل ، وفرض بعضها على الإمام ما لا يرضاه ، سواء فى مبدأ التحكيم الذى كان خديعة لا سند لها ، أم فيما يتصل بالمحكم الذى يمثله .
ويورد الأستاذ العقاد أن جهود عمرو بن العاص فى مسألة التحكيم ، أفادت معاوية بالمطاولة والمراوغة أضعاف فائدتها له فى النتيجة التى انتهى إليها قرار عمرو وقرار أبى موسى الأشعرى ، وأعلنها الأشعرى ، ولكن عمرو نكص وغش وخدع ليعلن غير ما اتفقا عليه ، وقد انصرف كل معسكر فى الميدان إلى سبيله دون أن ينعقد النصر لأحد من الفريقين .
ولكن مقصد الأستاذ العقاد فى بيان دور عمرو فى التحكيم ، أن تطاول الأيام الذى طفق يصطنعه ، أعان على تفريق جيش الإمام وتبديد شمله وشيوع اللغط بين طوائفه وأصحاب المذاهب المغالية من المتمردين عليه ، ولا سيما الخوارج والقائلين بتحريم القتال ، وكان خلاصة ذلك أن كل ما أعان على تفريق جيش الإمام ، كان ينصرف فى المقابل لتعزيز جيش معاوية وموقفه ، وتشجيع طلاب المنافع والمغانم ونهازو الفرص على الانضمام إليه سعيًا لنول ما كان يغدقه فى هذا السبيل من أموال ونفحات وإغراءات !
وقد نقلنا فى « عبقرية الإمام » ما جرى فى التحكيم ، وموجزه أنه فى الوقت كان فيه عمرو حريصًا على انتصار معاوية لما فيه من انتصارٍ له ، فإن أبا موسى لم يكن حسبه أنه لم يكن موضع ثقة واطمئنان الإمام ، وإنما كان محط ترحيب معاوية نفسه ، لأنه كان يجهر باجتناب القتال واعتزال الفريقين وكان هذا فى صالح معاوية ، وعلى هوى الأشعث بن قيس الذى كان بمثابة طابور خامس فى معسكر علىّ ، وقد تناولناه تفصيلاً فى « عبقرية
الإمام » .
ويذكر الأستاذ العقاد بعض ما دار فى المفاوضات بين الحكمين ، وقول عمرو لأبى موسى : « ماذا يمنعك من ابنى عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته ؟ » فقال له أبو موسى : « إن ابنك رجل صدق ، ولكنك غمسته فى هذه الحروب غمسًا » .
وطالت المفاوضة ، ومع أن تطاولها زاد من فرقة معسكر الإمام ، وكان من ثم فى صالح معاوية ، إلاَّ أن معاوية أوجس وعظم خوفه ، وجاءه داهية العرب « المغيرة بن شعبة » ليقول له : « قد أتيتك بخبر الرجلين » وأضاف إنه خلا بأبى موسى ليجلو ما عنده وسأله : « ماذا تقول فيمن اعتزل هذا وجلس فى بيته كراهية للدماء ؟ ! » فقال أبو موسى : « أولئك خيار الناس ، خفت ظهورهم من دماء إخوانهم وبطونهم من أموالهم » ، فخرج المغيرة من عنده إلى عمرو ، ووجه إليه ذات السؤال ، فأجابه عمرو : « أولئك شرار الناس لم يعرفوا حقاً ولم ينكروا باطلاً » » .
وعقب المغيرة أنه يحسب أبا موسى خالعًا صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد ، وأنه يحسب هواه فى عبد الله بن عمر بن الخطاب ، أما عمرو فهو صاحب معاوية الذى عرفه ، وأنه يحسب أنه سوف يطلبها لنفسه أو لابنه عبد الله ، وأضاف لمعاوية : « ولا أراه يظن أنك أحق بهذا الأمر منه » .
ويصادق الأستاذ العقاد على معتقد عمرو فى أن معاوية ليس أحق بالخلافة منه ، ولكنه يرى أن عمرًا كان أكيس من أن يطلبها لنفسه أو لابنه . لأن عمرًا يدرك أنه إن اتخذ هذا الموقف خسر معاوية وضاداه ، ولم يكسب عليًّا ، ولن يلقى ترجيحًا له من البقية الباقية من كبار الصحابة ، وأنه لم يذكر ابنه عبد الله إلاَّ لمخادعة الأشعرى . وقد خالت حيلة عمرو على أبى موسى ، فصدق أن عمرًا يخلع معاوية ، وأنه إذا ما قام هو إلى المنبر وخلع عليًّا ، فإن عمرًا سيقوم من بعده ويخلع معاوية ، وترك الأمر شورى للمسلمين .
وقد كان ما هو معروف وأسلفناه فى« عبقرية الإمام » ، أن أبا موسى التقط الطعم وأرضى غروره أن يبدأ هو بالحديث ، فقال إنهما اتفقا هو وعمرو على خلع علىّ ومعاوية ، وإعادة الأمر للمسلمين لاختيار من يشاءون ، إلاَّ أن عمرًا أكمل خديعته ، ونهض وقال إنه يقر أبا موسى على خلعه لصاحبه ، ولكنه يثبت معاوية ، وحصل ما حصل من اشتباك وتلاسن ، وانقضى التحكيم بلا نتيجة ، وآب كل معسكر إلى مكانه فى كل من العراق
والشام .
أما عمرو ، فقد كان مشغولاً بالحصول على الجزاء الذى طال اشتياقه إليه ، وهو ولاية مصر جامعة موروثة فى عقبة ، فماطله معاوية زمنًا واستكثر عليه هذه « الطعمة » التى يشتهيها ، وأسر فى نفسه أن يرجع فيما وعد به بذريعة من الذرائع التى لا تعيبه فكتب فى وثيقة تصالحا عليها أن ولاية مصر لعمرو « على ألاَّ ينقض شرط طاعة » ، وفى نيته أن يتعلل له بالخروج عن طاعته فيبطل شرطه ، بيد أن عمرًا فطن لما وراء هذا « القيد » المقحم فى الوثيقة فأنكره ، وكتب بدلاً منه : « على ألاَّ تنقض طاعةٌ شرطًا » ، يريد بذلك أن الطاعة لا تخول معاوية الرجوع فيما اتفق عليه .
وكان معاوية يتهم عمرًا بالعجلة كلما ذكر له مصر وأغراه بالزحف إليها . فجمع خاصته يومًا يسألهم : هل تدرون ما أدعوكم إليه ؟ قالوا : لا يعلم الغيب إلاَّ الله . فقال عمرو :
« نعم . أهمك أمر مصر وخراجها الكثير وعدد أهلها ، فتدعونا لنشير عليك . فاعزم وانهض … فى افتتاحها عزك وعز أصحابك وكبت عدوك » ، فقال له معاوية : يا ابن العاص ! إنما أهمك الذى كان بيننا ـ يعنى طعمة مصر ، والتفت إلى صحبه يستشيرهم : ما ترون ؟ فوافقوا عمرًا ، وعاد هذا يقول : « ابعث جيشًا كثيفًا عليهم رجل حازم صارم تثق به فيأتى إلى مصر ، فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا فنظاهره على من كان به من أعدائنا » ، فخالفه معاوية وقال له : « إنك يا ابن العاص ، بورك لك فى العجلة » !
إلاَّ انه لم يلبث أن تلقى من أنصاره بمصر كتابًا يستحثه إلى غزوها ، ويسأله « أن يعجل بخيله ورجاله ، فإن أعداءنا قد أصبحوا لنا هائبين » .
فعندئذٍ قبل نصيحة عمرو ، وأشخصه على رأس جيش عدته ستة آلاف رجل ، وخرج يودعه ولا يزال يحذره العجلة ويوصيه بالرفق « فإنه يُمْن ، والعجلة من الشيطان » .