لم يشأ الأستاذ العقاد ، ولم أشأ ، بيان تفاصيل فتح مصر ، اللهم إلاَّ استخلاص الزبدة والمغزى ، وأول ما يلاحظ فى هذا الإطار أن ثقة هرقل فى نفسه وثقة الروم فى صلاحيتهم للحكم ، كانت قد تزعزعت ، وضاعت معها ثقة الأعوان ، وأنه فضلا عن ثقة المسلمين فى النصر ، واطمئنانهم لما هم عليه ، فإن المصريين كانوا فى ضيق شديد من حكم الرومان ، وفى هذه العوامل ، دارت المعارك بين عمرو والمسلمين ، وبين الروم ، فبينما كان هؤلاء يتجمعون فى الفيوم ، زحف عمرو شمالاً إلى منف (عند البدرشين الحالية بمحافظة الجيزة) ، بعد أن أوهمهم أنه موغل فى الجنوب إلى تخوم النوبة . وقد أعانه على مفاجأتهم خفة العدة ، وقلة الزاد ، وسرعة الخيل العربية فى سهول الريف ورمال الصحراء .
وكان أول اللقاءات الحاسمة عند « عين شمس » حيث خرج الروم بقيادة « ثيودور » للقاء المسلمين ، بينما كان عمرو قد استعد بقلب جيشه عند الجبل الذى يلى العباسية الآن ، وأعد للروم كمينًا عند « أم دنين » حيث الأزبكية الآن ، وأسفرت المعركة على تفصيل
لا يعنينا هنا عن هزيمة الروم ، وإخفاقهم فى مفاجأة المسلمين بهجوم مفاجئ مضاد ، فانتصر المسلمون فى النهاية بما لديهم من الثقة والخبرة .
وقد كان المصريون يتوقون من الروم كل مكروه ، للعداء القائم بين المذهب الملكى وهو مذهب الروم ، والمذهب اليعقوبى وهو مذهب القبط .
وثمة تضارب كثير أو قليل عن موقف القبط إزاء حكامهم الروم ، وإزاء المسلمين المغيرين على أرضهم ، إلاَّ أن هذا التضارب فى ظل تلك الظروف لا غرابة فيه ، ولا موجب لاتخاذه دليلاً على أن القبط لم يكونوا ضيقين بحكم الرومان .
فكراهة القبط للروم ثابتة لا شك ولا جدال فيها ، فإذا جاء فى بعض التواريخ أنهم أظهروا المودة للعرب ، وجاء فى تواريخ أخرى أنهم لبثوا على موالاة الروم إلى ما بعد الهزيمة الحاسمة ، فليس سبب ذلك أنهم أحبوا أولئك وكرهوا هؤلاء ، وإنما لكونهم قد ترقبوا جلاء الموقف بين الجيشين المتقاتلين ، فضلاً عن أنهم كانوا يعملون متفرقين لامتلاء البلاد بالمعسكرات التى تقطع الصلة بين أجزائها ، فكان بعضهم على مقربة من جند الروم والبعض على مقربة من جند العرب ، وهو ما يمكن أن يؤدى للأعمال المتشابهة أو المتخالفة على حسب الأحوال .
فحصول التضارب فى الأخبار وارد وطبيعى ، ومن العبث الجزم باستحالة كل حركة من حركات الفتح ، قياسًا على أعمال الجيوش التى جرى بها العرف فى غير هذه الأحوال ، لأن الاستحالة والجواز إنما يحسبان هنا بحساب لا يتكرر كثيرًا فى جميع الحروب .
ففى غير هذا « الفتح » يجوز مثلاً ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ أن يسأل السائل : كيف استطاع عمرو بن العاص أن يترك حصن بابليون ويوغل فى الصعيد ، ومن ورائه جيش أعداء يقطع عليه الرجعة ويحصره حيث كان !؟
ولكننا إذا اصطنعنا هذا القياس هنا ، وجب أن نستبعد الفتح كله من ألفه إلى يائه ، لأن أربعة آلاف مقاتل يتفرقون من العريش إلى بابليون ، لا يفتحون قطرًا يسكنه شعب كبير وتحميه دولة كبيرة ، فإن لم يتفرقوا وساروا جميعًا إلى حصن بابليون ، فإن قطع خط الرجعة عليهم أيسر الأمور ، لو سارت الحركات العسكرية على المألوف فى سائر الحروب …
وخذ حصر الإسكندرية مثالاً ، وهى مفتوحة من البحر إلى القسطنطينية ، ومع ذلك يجرى التقصير فى إمدادها خلال الفتح الكبير ، وذلك يدل على أن الحساب فى هذا الفتح غير الحساب فى سواه .
وأولى أن يقال إن جند الروم ـ لا جند العرب ـ هم الذين كانوا على حذر من الإيغال فى جوف البلاد خوفًا من إحداق الأعداء والرعية بهم فى مأزق غير متوقع . فالتناقض فى هذه الأخبار وما شابهها هو طبيعة الموقف ، التى لعلها توجب الميل إلى قبولها ، ولا توجب الشك فيها .
ويمكن للمتأمل أن يستغنى عن تعداد شواهده الكثيرة إذا أضاف إلى ما سلف تناقضًا آخر ، وهو التناقض الذى أحاط باسم الوالى الرومانى الذى تلقى العرب ثم صالحهم على تسليم البلاد . فمن هو « المقوقس » هذا ، وما حقيقة الأمر فيه ؟ أهو رومانى أو مصرى ؟ وهل هو من رجال الحرب أم من رجال الدين ؟ وهل كان محبوبًا فى شعبة أو كان مبغضًا إليه ؟
قيلت جميع هذه الأقوال فيما كتبه العرب والرومان ، ولكنه فى أرجح الأقوال ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ رجلٌ من غير الروم ومن غير المصريين الأصلاء الأقدمين ، تولى من قبل هرقل سلطانًا دينيًّا مقرونًا بسلطان الدنيا ، ومضى فى سياسته على سنة النهّازين للفرص من خدام الدول المتداعية ، فأغلظ للشعب الضعيف مرضاة للسادة الأقوياء ، ثم بدا له أن سادته الأقوياء ذاهبون ، فأحب أن يستقل بكرسيه ، وأن يأوى إلى جناح الفاتحين لعلهم يشكرون له صنيعه ويحمونه من أعدائه فى مصر والقسطنطينية .
ذلك هو أقل الغرائب فى وصف هذا الرجل الغريب ، ولكنه على ذلك ليس بالوصف القاطع الوثيق ، وأوثق ما يقال عنه إنه رجل كان يرهن مصيره بمصير البلد الذى أقام فيه .