اجتمع المسلمون كما أمرهم أبو بكر باليرموك ، وكان مجموع عدتهم نحو سبعة وعشرين ألفًا ، غير ستة آلاف كانوا مع عكرمة بن أبى جهل ، بينما جمع الروم حشودهم قبالتهم وعليهم التَّذارق ( وهو تيودور ) ، وعلى مقدمته جرَجة ، وعلى الجانبين الدُّراقص وياهان ، فنزلوا « الواقوصة » على ضفة اليرموك ، وصار الوادى خندقًا لهم ، وهو فرجة بين جبلين لا تدرك ، وانتقل المسلمون فنزلوا عليهم بحذائهم على طريقهم ، وبذلك لم يعد للروم طريق إلاَّ على المسلمين ، فقال عمرو بن العاص : « أيها الناس ! أبشروا ، حُصِرت والله الروم ، وقلما جاء محصور بخير » !
وجعلت الأنباء تترى إلى أبى بكر فى المدينة بما يواجهه المسلمون إزاء جحافل الرومان الذين حشدوا إليهم جيشا ضخما فى العدد والعتاد ، يبلغ تعداده أضعاف جيوش المسلمين مجتمعة ، واستمد أمراء الأجناد أبا بكر ، فقر عزمه أن يستنهض للمهمة سيف الله المسلول خالد بن الوليد الذى أنجز بطولات رائعة وانتصارات مشهودة على المرتدين والمتنبئين ، فقال رضى الله عنه لمن حوله من الصحابة « والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد ابن الوليد » .
وكانت ثقة أبى بكر فى خالد بن الوليد كبيرة ، وقدر أنه بعد أن استوت الأمور فى العراق فى حرب المرتدين والمتنبئين ، فإن الشام أحوج اليوم إلى البطل الميمون ، فكتب إلى خالد ينتدبه للشام ، وأمره بأن يأخذ معه نصف الناس ، ويستخلف على النصف الآخر المثنى ابن حارثة الشيبانى ، ووعده بأنه إذا انتصر فى الشام أعاده إلى العراق ، وخرج خالد إلى الشام ومعه تسعة آلاف فى أرجح الروايات .
وإذ انتدب أبو بكر خالدًا إلى الشام ، فإنه لم يجد بنفسه حاجة إلى ما يشبه الاعتذار أو التبرير ، إلاَّ مع أمين الأمة أبى عبيدة بن الجراح ، فكتب إليه ما يكاد يكون اعتذارًا عن تولية خالد وتأميره ، وهو ما يؤكد ما قاله بعض الرواة من أن أوامر الصديق للقادة الأربعة ، أنهم إذا اجتمعوا فأميرهم أبو عبيدة ، فهو الوحيد الذى كتب إليه الصديق يقول : « سلام الله عليك ، أما بعد .. فقد وليت خالدًا قتال العدو فى الشام ، فلا تخالفه ، واسمع له وأطع .. فإنى لم أبعثه عليك ألاَّ تكون عندى خيرًا منه ، ولكننى ظننت أن له فطنة فى الحرب ليست لك . أراد الله بنا وبك خيرًا والسلام » .
وهذا الكتاب يؤكد أن أبا عبيدة ، كان أمير الأمراء بالشام إذا اجتمعوا ، وهو ما يصادقه أنه الوحيد الذى كتب إليه خالد معتذرًا عن مقدمه عليه ، فيقول الرواة إنه كتب إليه : « سلام الله عليك ، وبعد .. فقد أتانى كتاب خليفة رسول الله يأمرنى بالسير إلى الشام والقيام على جندها ، والتولى لأمرها . والله ما طلبت ذلك قط ، ولا أردته إذ وليته .. فأنت سيد المسلمين ولا ننكر فضلك ولا نستغنى عن رأيك » .
كان على خالد أن يمضى سريعًا لنجدة المسلمين بالشام ، فلم يضيع وقتًا ، وارتحل بمن معه ليلاً ، وكان عليه أن يقطع فى أقصر وقت مسافة تتراوح بين 500 إلى 600 ميل ، أى ما يقرب من نحو ألف كيلو متر .. وأمامه إلى غايته أربعة طرق ، منها ما هو موفور بالماء والكلأ ، ولكنها طرق طويلة ـ فأجمع أمره على أن يسلك أقصرها ، ولكنها طريق صعبة ، وصحراء مقفرة ، بل مفازة مهلكة ، فالتمس دليلا ، فأتوا إليه برافع بن عميرة الطائى ، وكان قد انحسر نظره ، ولكنه كان أعلم الأدلاء بهذه المفازة ، فحذر خالدًا من سلوكها ، ولكن خالد أجاب بأنه لا بد له من ذلك ، وبأن القوة تأتى على قدر النية ، فلما وصلوا إلى أرض « السماوة » ، وهى البادية بين الكوفة والشام ، حذره الدليل بأنه لن يطيق عبور هذه المفازة المهلكة بالخيل والأثقال ، قائلا له : « فو الله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه » .. ولكن خالد رأى أنه لا بد له من ذلك ليخرج من وراء جموع الروم بالخيل والعتاد حتى لا يحبسه شىء عن غياث المسلمين ، ويروى الرواة أن الدليل طلب أن يكثروا من المياه ما استطاعوا ، وأن يصر كل منهم أذن ناقته على ماء بقدر استطاعته ، لأنها المهالك إلاَّ ما دفع الله ، وطلب من خالد أن يأتوه بعشرين جزورًا عظامًا سمانًا مسان ، وطلب تعطيشها حتى إذا أجهدها العطش يسقونها عَلَلًا بعد نهل ، والعلل هى الشربة الثانية ، والنهَّلَ الأولى ، ثم يصرون آذان الإبل ويشدون مشافرها حتى لا تجتر . وفى الطريق جعلوا يشقون بطون الإبل ويمزجون ماء فى كروشها بما كان من الألبان ويسقون الخيل ، ويأكلون اللحم ، فلما مضت أربعة أيام ودنوا من موقع يقال له « العلمين » ، طلب الدليل من الناس أن ينظروا هل يرون شجرة عَوْسج ( أراك ) شكلها كقعدة الرجل ، فالتمسوها وأخبروه أنهم لا يرونها ، فقال الدليل : « إنا لله وإنا إليه راجعون . هلكتم والله وهلكت معكم » ! وألح عليهم ـ وكان أرمد ، أن يعاودوا البحث ، وجعل يتحسس معهم السهل ثم ضرب بعصاه فى موضع فنظروا فرأوها وقد قطعت وبقى منها بقية ، فكبروا . وطلب إليهم رافع أن يحفروا فى أصلها ، فلما حفروا نبع لهم الماء ، فشربوا حتى ارتووا ، وسقوا الخيل والإبل .
وجملة القول أن خالدًا قطع المسافة فى ثمانية عشر يومًا ، فكان يطوى مسافة اليومين فى يوم واحد ، وقمع فى طريقه كل مقاومة صادفته ، حتى طلع على المسلمين باليرموك فى ربيع الآخر سنة 13 هـ .