رقم هاتف المكتب

٩٩١ ٥٨ ٠١٠٠٠٠

البريد الإلكتروني

[email protected]

أوقات العمل

الأحد إلى الخميس: ٩ ص - ٣ م

 

     ويروى أنه حين جمع عثمان مجلسه للشورى ، لم يقبل من ناصحيه أن يشغل الناس بالجهاد ، لأنه لم يرض أن يكون الجهاد سياسة يحمى بها نفسه .

     ورفض ولم يقبل من ناصحيه اتخاذ الحرس ، أو السفر إلى الشام .

     وقد كان من رأى الإمام علىّ أن يشتد فى حساب الولاة ، وأن يعزل منهم من نهج منهجًا لم يكن يرضاه قبله الفاروق ولا الصديق ، ولو فعل عثمان ذلك لكان معاوية أول من يجب عزله ، بيد أن ولاية معاوية فى الشام كانت أقل الولايات شغبًا عليه ..

     ويرى الأستاذ العقاد أنه إذا كان أُس البلاء فى سهولة الشكوى ، فمتى سهلت الشكوى ، فإن الإعراض عنها محنة ، والاستجابة إليها محنتان ، لأنها تغرى بتكرار الشكوى والتوسع فيها .

     على أنه تحسب على عثمان ـ فيما يرى ـ هنات وأخطاء جنت عليه ، وساعدت أيضًا مَنْ أراد أن يتجنى عليه بالحق أو بالباطل . من هذه الهنات أو الأخطاء توسعه فى حقوق الإمامة ، وتوسعه فى معيشة الغنى بعد خليفتين كانا مثالاً فى التقشف والرضى بالقليل ، ومنها توسعه فى تقريب ذوى قرابته واصطفائهم ، وعدم ردعهم عن مجابهة كبار الصحابة من أمثال الإمام علىّ وعبد الرحمن بن عوف ـ بسوء المظنة والتهمة الجائرة !

       أما إصراره على عدم عزل نفسه من الإمامة ، فلا يراها من أخطائه أيًّا ما كان باعثه ، فهو بالتأكيد لا يُعزى إلى الأثرة بل ولا يفسره إلاَّ الإيثار فى سبيل ما اعتقد أنه واجب عليه ، حتى الإيثار على الحياة ..

     ومن الفضول فى سيرة تدور هذا المدار فى « تحليل الشخصية » ، إطالة الحديث فى سرد أحداث الفتنة التى انتهت بمقتل عثمان ، أو محاولة حصر الأسماء ، ومن المقطوع به أنه لم تكن هناك مصلحة قط لأحدٍ من كبار الصحابة تبرر اتهامه بالتدبير لهذه الفتنة .

    إنما هو شغب غوغاء لا رأس له ولا قدم ، ولا يوجد تدبير وراء هذا الشغب الأعمى ، وإن حامت شبهات جدية حول ابن السوداء ومن كانوا يستمعون إليه من شذاذ الأمصار .

     ثم بلغ الكتاب أجله بقصة ذلك الكتاب الذى قيل إنهم وجدوه مع غلام لعثمان يأمر فيه والى مصر أن ينكل بقادة الوفد العائد إليه من عند عثمان ..

      عاد وفد مصر من عند عثمان موعودًا بما يرضيه ، ثم لم يلبث أن قفل عائدًا ومعه كتاب مختوم بخاتم عثمان ( قيل إنَّ وراءه مروان ) يأمر فيه بجلد ثلاثة معينين بالاسم وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم .

     على أنه لم يعد وفد مصر وحده ، بل عاد معه وفد الكوفة ووفد البصرة وهم مفترقون فى الطريق ، مما لم يفت الإمام علىّ أن يسألهم عن هذا الملتقى العجيب ، إن صحت قصة الكتاب !

*            *           *

       وإذ حان المصرع الأليم ، الذى لا يحب الأستاذ العقاد إطالة الحديث عنه ، فإن تريثه هنيهة بعده ـ إنما هو تريث لاستخراج العزاء لبنى الإنسان من الشر المركوز فى طبيعة الإنسان !

        هذا ولئن كان مصرع عثمان شرًّا مطبقًا ، إلاَّ أنه كان كجميع الشرور ، ينطوى على خيرٍ يبقى بعد           زوال الغاشية ، وهو فيما يرى حساب ولى الأمر وهو يبسط سلطانه من تخوم الصين إلى بحر الظلمات ..

       وكان من الخير فيه ، ذلك الإيمان الصادق الذى صمد به شيخ فى التسعين للكرب المحيق به وهو ظمآن محصور فى داره بغير نصير .. ولو شاء لكان له ألوف من النصراء يريقون  البحار من الدماء حيث عزّت قطرة الماء !

       فإذا ما وجبت كتابة السير ، فأوجب ما يوجبها هو كشف الخير فى أغوار النفس الإنسانية ، فإذا كان الأستاذ العقاد لم يصف هذه السيرة الرابعة للخلفاء ـ فيما يقول ـ بالعبقرية كما سمى سير عبقرية عمر وعبقرية الإمام وعبقرية الصديق ، فلأنه لم يؤمن بالعبقرية لعثمان رضى الله عنه ، وإنما يؤمن بأنه ذو النورين : نور اليقين ، ونور الأريحية والخلق الأمين .

    وأخيرًا ، فحسب النفس البشرية أملاً ، أنها غنية بالحق عن قصائد المديح فى هذا المحراب ..                                      ( انتهى )

 

                        وبعد !

 

       فقد يحق لنا رغم مكانة الأستاذ العقاد بعامة ، وعندى بخاصة ، أن نضيف أن الأسباب التى أشار إليها كانت « فرادى » قبل عثمان ، ولكنها « تجمعت » معه وزادت وتأصلت ، ولم يلتفت عثمان الالتفات الواجب إليها ، وغلبه « تردده » وأيضًا استكانته لذوى قرباه ، وأنه إذا كان « الأوج » الذى ارتفعت إليه الأمة بمقتضى الدعوة المحمدية وعَزَّ الاستمرار فيه ـ من الأسباب التى أحصاها الأستاذ العقاد ، فإن من الهنات والأخطاء التى أقر بها ـ ما أدى إلى مرارة الشعور بالتراجع عن هذا « الأوج » الذى ارتفعت إليه النفوس والأرواح !

      وحسبنا تدليلاً لا حصرًا ، المفارقة بين إعادة « الحكم بن العاص » على فداحة ما ارتكبه إلى المدينة ، وإيذاء شعور الصحابة وعامة المسلمين ، وبين نفى صادق اللهجة « أبى ذر الغفارى » إلى صحراء الربذة ، مع أنه لم يشغب على الخليفة ، وأبدى أنه لو صلبه على جذع نخلة لصبر وأطاع ، وأنه لو أمره أن يمشى على رأسه لمشى ، ولو أمره أن يحبو لَحبَا ، ولم يصدر عنه فى الواقع سوى ما كان كفيلاً بعلاج ظاهرة الثراء والكنز التى جعلت تتفشى بعواقبها الوخيمة ، وكان بوسع عثمان لو أحسن سياسة الأمور ، أن يستفيد من هذه المعارضة الصادقة فى علاج ما استعصى عليه علاجه ، وحجته فى المعارضة التى كان يبديها « أبو ذر » واضحة ، وهى قالة النبى عليه الصلاة والسلام فيه : « ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبى ذر » ، وقوله عنه يوم تبوك : « رحم الله أبا ذر ، يمشى وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده » .

      أما الخير الذى أمله الأستاذ العقاد من ظهور مبدأ « محاسبة الإمام » ، فإن ما استخلصه يتعارض تعارضًا يستعصى على التوفيق مع اعتناقه أن ما حدث لا يعدو أن يكون « شغب غوغاء » ، وأنه « شغب أعمى » ، إذ مثل هذا الشغب ، وعلى ما وصفه به ،
لا يمكن أن يتغيّا مقصدًا عاقلاً يدور حول
« مبدأ محاسبة الإمام » ، هذا إلى أن حوادث التاريخ فيما تلا هذه المأساة ، تؤكد أن هذا المبدأ لم يستيقظ ولم يُبَاشر قط طوال الدولة الأموية وطوال الدولة العباسية وما تفرع عنها أو وازاها ، ولم يكن له أى أثر أو مسحة من أثر فى مراجعة معاوية فى توريث الأمر لابنه يزيد ، إلاَّ معارضة الثلاثة أو الأربعة من كبار أبناء الصحابة الذين غُلبوا على أمرهم ، ولم يتحرك أحدٌ وفقًا لهذا المبدأ المستبشر به ، لإيقاف التوريث الذى ابتدعه معاوية واستمر بعد ذلك قرونًا ، وسالت بسببه دماء على جدار السلطة ، فى صراع اقتصر على أصحاب السلطان ، وغابت أو غُيِّبَتْ إرادةُ الأمة تغييبًا تامًّا حتى آلت الأمور فى النهاية إلى حصاد الهشيم ، ويمكن لمن يريد التوسع أن يرجع إلى ما كتبته حول الدماء التى أريقت على جدار السلطة .

     وبعد ، فلا يضير الأستاذ العقاد هذه الوقفة ، وهى لا تقلل البتة من عمق وعراضة
ما بذله فى هذا الكتاب أو غيره من الكتب الضافية التى أجول معكم فيها فى مدينة أو مدائن العقاد .

المقالات الموصى بها

اكتب تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *