كان من الناهضين لمحاسبة عثمان رضى الله عنه أناس مغرضون , يقولون ما لا يفعلون ويفعلون غير ما يقولون , كان منهم من أقام عثمان عليه الحد , ومن حبس أباه فى جريمة , أو من فرق بينه وبين من بنى بها على غير الشريعة , ومن رفض أن يوليه ولاية , وكان منهم أيضًا من لم يلحقه أمرٌ من هذه الأمور , ولكن طويت نيته على فساد وإفساد .
ولا شك أن هذه النوازع والمآرب شابت حركة الخروج على الخليفة , وإن لم تكن زراية لحق المحاسبة إذا استقامت النوايا والمقاصد .
ولاشك كذلك فى أن آفة البحث فى تطور الأخلاق والقيم الإنسانية , إنما تأتى ممن يتصدون للبحث ممن لا علم ولا فقه لهم .
وأضل هؤلاء من يبحثون فى تطور الأخلاق فيأخذونها بالعناوين , وقد يطلقون العنوان الواحد على النقيضين .
وليس من الميسور فى هذا المقام تفصيل وجوه الخلاف بين الإباحة القديمة والتحريم الحديث فى جميع الفعال والخلال . ويكتفى الأستاذ العقاد بضرب مثال يغنيه عن الإسهاب وهو مفهوم « القرصنة » بين العصرين القديم والحديث .
الواقع أن قرصنة الأمس كانت حقًّا كحق صاحب الملك الذى تسطو عليه , فقد كان صاحب الملك يجمع بضاعته بالسطو على قبيلة أو عشيرة أو سفينة .
* * *
ويصدق على سرقة الناشئة الاسبرطيين ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ ما يصدق على القرصنة فى العصور القديمة .
ويمكن أن يُقال أيضًا إن الاضطهاد الدينى فى العصور الوسطى ـ غير الاضطهاد الدينى فى العصر الحديث . ذلك أن العمل لا يعتبر رذيلة أو جريمة إلاَّ إذا كان فيه نقض لقيمة أخلاقية مصطلح عليها , وهذه القيم اختلفت ما بين عصر وعصر , فلم يكن التسامح مثلاً ولا الحرية الفكرية ـ قيمة مصطلح عليها فى العصور المظلمة بين الأوروبيين , سواء منهم المُضْطهدون ومن يقع عليهم الاضطهاد , ولذلك فالاضطهاد الدينى يختلف ما بين عصر وعصر تبعًا للقيم السائدة فى كل عصر .
ولا مراء فى أن القيم الأخلاقية هى الجوهر المهم فى تطور الأخلاق , وليست العناوين والأسماء واللافتات .
ولا شك أن محاسبة الحاكم كانت قيمة جديدة بين العرب والمسلمين فى الصدر الأول للإسلام , فنادى بها الخاصة والعامة , وادعاها الصادق والكاذب , وظلت عاملاً مهمًا فى السياسة أيام الخلافة .
أثر العقيدة بين عثمان وشانئيه !
أما الخليفة عثمان رضى الله عنه , فإن أثر العقيدة فيه كان أعمق وأعرض من أثرها فيمن قدموا من الأمصار ليناظروه ويحاسبوه , وهو واحد من معدودين لم يكن فى وسع العقل أن يتخيلهم فى جاهليتهم على حالتهم التى ارتفعوا إليها بعد الإسلام .
فقد كان عثمان من سلالة الأمويين ، وهى سلالة اشتهرت فى الجاهلية بالحرص على المال لا تبذله فى غير مأرب أو متعة ، فلما أسلم عثمان رضى الله عنه كانت شهرته الكبرى بالسخاء والأريحية و البذل من ماله فى سبيل الإسلام و المسلمين ، من ذلك أنه نزل عن ماله لتسيير جيش العسرة الذى خرج لصد المجتمعين فى تبوك ، ونزل عن ماله لشراء بئر يستقى منها المسلمون ، ونزل عن ماله لتوسعة المسجد ، ونزل عن ماله لحمل المغارم وإغاثة الملهوف والبر بالأقربين والأبعدين .
فلا غرو أن أثر العقيدة فيه كان عميقًا وعريضًا .
فإذا كانت الأقوال والتأويلات تتعارض بشأن مذهبه فى محاسبة نفسه ، إلاَّ أن الأمر الثابت الذى لا جدال فيه أنه قد بلغ الذروة فى التحرج من المساس بالحياة البشرية ، حتى ولو فى سبيل الذود والدفاع عن نفسه وأهل بيته ومن لاذوا به أو أحاطوا به لحمايته وحماية داره من الاقتحام . ولما سئل أن يتنحى عن الخلافة أبى ذلك حتى ولو كان ثمن الرفض حياته ، ومن ثم لم يكن رفضه أملاً فى شىء يتطلع إليه ، وإنما احترامًا لعقيدة متغلغلة فيه ، ومن المؤكد أن عثمان الخليفة كان أقل مالاً مما كان عليه يوم تولى الخلافة ، وأقل كثيرًا مما كان عليه قبل إسلامه .
فإذا تركنا الحوادث جانبًا ، ونظرنا إلى التاريخ فى صدر الإسلام على أنه تاريخ قيم ومبادئ ، لاتضح لنا بجلاء أننا إزاء فواجع مؤلمة يود الناظر إليها أن تتوارى أو يزوى بنظره عنها ، ومن ثم فإنه لا صدمةً إذا وَزَنَّا الحوادث بميزان القيم ، وعلمنا أن التاريخ لا يخلو من الحوادث ، وأن حوادث الخلاف ليست بأكبر الشرور التى تُبتلى بها ضمائر بنى الإنسان .
وبعد الصدمة
وليست الصدمة العنيفة بالحائل الوحيد ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ الذى يحول دون توضيح وتمحيص أسبابها وعواملها وتبعات المسئولين عنها .
والصعوبة الكبرى أننا أمام « حادثين » ، يرجع كل منهما إلى أسبابه وعوامله وهما : التطور السياسى ، ومقتل عثمان رضى الله عنه .
وقد طال الجدل حول دور « عبد الله بن سبأ » الملقب بابن السوداء وأثره فى هذه الفترة ، ورأى بعض المؤرخين أن هذا الرجل أهون من ذلك لأنهم اعتقدوا أن الانقلاب السياسى ومقتل عثمان ـ حادثًا واحدًا له أسباب واحدة ، مع أنه كان حادثين لا حادثًا واحدًا . ولو قام هؤلاء المؤرخون بتفصيل أسباب كل من الحادثين ، لأمكنهم تقدير التبعات والدسائس فى كل عمل ، تقديرًا يوافق الواقع ويقود إلى الحقيقة .
فلا شك أن ابن السوداء أهون من أن يحدث « التطور السياسى » ، ولكن مقتل عثمان شىء أخر ، فى وسع ابن السوداء وغيره أن يقترفه بيده وأيدى من يستمعون لتحريضه ودسيسته وإهاجته ، لأن ذلك فى حقيقته « مشاغبة » من مشاغبات الدهماء .
والذين يقرأون فاجعة مقتل عثمان ويلمون بالتاريخ ـ يسبق إلى خيالهم ما قرأوه عن مصارع رؤساء الدول فى إبان الثورات والفتن القومية , كالثورة الإنجليزية مع شارل الأول , والثورة الفرنسية مع لويس السادس عشر , وغيرهما من الثورات , ويسبق إلى خيالهم الظن بأن الثورة التى أفضت إلى مقتل عثمان كهذه الثورات , بينما الواقع أنه يوجد بينهما فارق بعيد أبعد من فارق الزمان والمكان ! ( يتبع )