الإنسانية من ماضيها إلى مصيرها
إلى جوار التساؤلات عن معنى الحياة الإنسانية ، والحكمة المستخلصة من المسافة الشاسعة لماضى الإنسانية ، يستفتح الأستاذ العقاد هذا المقال الذى نُشر فى 16/7/1955 بمجلة الإذاعة والمصرية ، بالإشارة إلى أكبر علماء التاريخ فى زماننا ، الأستاذ « أرنولد توينبى » ، وإلى عمله الكبير : « دراسة التاريخ » الذى أنجزه فى ثلث قرن ، فى عشرة مجلدات ضخمة ، صدرت فى ختام سنة 1954 ، فى نحو سبعة آلاف صفحة ، إلاَّ أنه بدا للمؤرخ الكبير قبل صدورها ـ أن يعيد النظر فى بعض الآراء التى ظهـرت فى الأجزاء الأولى .
بيد أنه لمشقة المهمة ، وضخامة تكاليفها ، تبرعت بعض المعاهد العلمية بالنفقة اللازمة للسياحة فى مواطن الحضارات والإقامة حيث تلزم الإقامة زمنًا فى بعضها كآثار المكسيك والشرقين الأقصى والأدنى ، ولتنتهى هذه السياحات التاريخية قبل سنتين من ظهور آخر مجلدات هذه الموسوعة التاريخية .
مجهود من مجهودات الجبابرة ، وعلم واسع وعريض يؤهل صاحبة فيما يقول الأستاذ العقاد ـ للحكم على دلالة التاريخ الإنسانى . فماذا كان حكمه ؟!
أفرغه « توينبى » فى سطر واحد يقول « إن التاريخ هو طريق الإنسانية إلى الله » هذا هو الإجمال الذى شرحه المؤرخ الكبير فى سبعة آلاف صفحة ، وقرر فى شرحه أنه لا معنى لتواريخ الأمم والحضارات والعقائد والأخلاق ـ إلاَّ أن تكون هداية للنفس الإنسانية إلى حرية الضمير برعاية الله .
وكل أمة ، وكل حضارة ـ إنما ترفع فى الطريق مصباحًا صغيرًا أو كبيرًا لإنارة الطريق وساحة الكون كله للعلم بحقائق الوجود ، أو للعلم بحقيقة الحقائق وهى مصدر الخلق والتدبير فى الوجود .
ومن تقريراته فيما يقول الأستاذ العقاد ـ أن الإنسان قد يصطنع الأعمال والحرف ويبتكر العلوم ـ ولكنه لا يخلق عقيدته الدينية ، بل تأتيه العقيدة مفروضة فى سريرته وشعوره .
وضرب توينبى مثلاً بعقيدة الإسلام .
أراد الفرس الذين دخلوا الإسلام أن يستخدموا عقيدته فى إحياء القومية الفارسية ، فاستخدمتهم العقيدة فى دراسة معارفها وتوطيدها .
وجاء المغول إلى بلاد الإسلام من أقصى الشرق ليقيموا « سلطتهم » على أركانها فأصبحوا هم حراسًا لتلك الأركان .
فليس أقوى من الإيمان على تسيير الإنسان والارتقاء به على معارج الحضارة فى طريقه إلى الله .
وعند العلامة « توينبى » أن هذه « المهمة » الأبدية ـ مهمة « تعاون » بين الحضارات والعقائد ، يؤدى كل منها بعض الواجب لتحقيق الواجب كله فى النهاية .
وستأتى القرون بعد القرون وبعد القرن العشرين ، ولن يذكر أحدٌ لهذا القرن شيئًا من إنجازاته العلمية والذرية ومخترعاته ـ إلاَّ الدعوة إلى « الأخوّة الإنسانية » .
مرت بالشرق وبالغرب حادثات كبرى ، من البراكين المادية ، وبراكين الحرب العالمية ، والقذائف الذرية ، وقنبلتى هيروشيما وناجازاكى ، واشرأبت أخطار القنبلة الهيدروجينية الجهنمية ، وتبعتها وستتبعها ما هو أخطر منها .
فما مصير الإنسانية بعد هذه النذر والبراكين ؟
لا فائدة من منع السلاح ، بل الفائدة المعلقة على « منع الحرب » بكل أنواعها !
قد يميل بالدول الحذر من الحرب لما تخسره فيها ، وأولى أن يتجه الحذر إلى ما تخسره الإنسانية كلها من هذه الحروب ، بل ويخسره المنتصرون فيها !
إن سوابق الحروب لا تبشر بخير ، ولكن سابقة واحدة يرجى أن تبعث التفاؤل فى نفوس طلاب الخير ، وهى الاتجاه المتنامى ـ رغم سطوة الشر ـ لتحريم الغازات السامة والإجماع على اجتنابها وما يشابهها .
إن المادة الصماء لم تخلق الإنسان فيما يقول الأستاذ العقاد ، فالشىء لا يخلق ما هو أحسن منه وأكمل .
فلنعد إذن إلى خلاصة التاريخ الإنسانى متفائلين ، أنه كما قال العارفون طريق الإنسانية إلى الله .
وفى هذا الطريق يستطيع العقل أن يصنع اختراعات من جنس القذيفة الذرية وأمضى منها ، ليقاومها ويكبح شرورها ويؤمّن الإنسانية منها ، ويستبقى للذرة فوائدها ومنافعها وهى أوسع كثيرًا من دوائر دمارها ، وبمقدور العقل ومستطاعه ، أن يأخذ بزمام المادة وعناصرها ، لا ليدمر بها الإنسان والإنسانية ، وإنما ليقترب بها إلى الله .