(2) المسلمون فى القرن التاسع عشر
لا تملك إلاَّ أن تأسرك شجاعة الأستاذ العقاد بإقباله غير هيَّاب على هذا الفصل ، فقد أغناه فى الفصل السابق إلمامه العريض بحركة التاريخ ، ولكنه يتصدى هنا لأحوال المسلمين ، تعدادهم وظروفهم والمؤثرات المحيطة بهم من حولهم ، بما استتبعه ذلك من الإحاطة بأقطارهم فى أنحاء المعمورة بالقرن التاسع عشر ، فى الدولة العثمانية ، وفى إيران ، وفى مراكش ، وفى أمم لم تكن مستقلة آنذاك ، كالهند ، وأندونيسيا ، والصين ، وأيضًا فى وادى النيل : مصر والسودان ، وفى البلاد العربية ، وفى الهلال الخصيب ، وفى أفريقيا الشمالية ، وعن المسلمين فى الحبشة ، وجملة الأقطار الأفريقية التى يقطنها الزنوج ، ثم جماعات التبشير فى ذلك الزمان .
ووجه الصعوبة ، لا يكمن فقط فى اتساع مساحة البحث ، وذلك فى ذاته مشكلة ، وإنما أيضًا فى ندرة المادة اللازمة للبحث ، فلم يكن علم الإحصاء قد تقدم التقدم الذى نراه الآن ، ولم تكن الإحصائيات التى نلمسها حاليا فى دوائر المعارف وكتب المقارنة بين الأديان متوفرة ، ولا كانت البحوث السياسية التاريخية قد استقامت واستكملت تضاعيف ما جرى فى هذه الأقطار العديدة المتنوعة ، بين قارات متباعدة ، طوال القرن التاسع عشر وما سبقه وأفضى إليه .
وكان فى مقدمة الصعوبات التى صادفت الأستاذ العقاد بغير إحصائيات موفورة موثوقة ، تعداد المسلمين ، سواء على مستوى العالم ككل ، أو فى الأقطار والأمم والدول والجماعات . بيد أنه أقدم على المهمة بإخلاص ودأب ، غير هيّاب ، وطلب غايته فى مظانها المختلفة ، فلم يترك الروايات ، ولا إحصاءات بعثات التبشير ، ولا رسائل أشخاص كبار موثوق بهم كالسيد توفيق البكرى ، ولا ما جاءه عن مسلمى الصين ، أو التركستان وبخارى والتنجان وغيرها ، ولا تقديرات المؤرخين المحققين ، وكان ذلك عسيرًا آنذاك ، ليخلص إلى تقدير رآه معقولاً أو قريبا من المعقول لتعداد المسلمين وأماكنهم وأقطارهم فى قارات العالم ، بما فيها أوروبا ، فى القرن التاسع عشر .
على أن المهمة لم تكن أيسر صعوبة فى التصدى للدول والأمم والأوطان ، وقد أوقعنى ما أجراه من دراسات ضافية ، فى حيرة حقيقية كيف أتحدث عنها ، فهى موجزة شديدة الإيجاز يصعب فيها الاختصار إلاَّ أن يكون مخلاًّ ، وهى فى تركيزها تحتاج إلى بسط لا تتيحه مساحة هذا المجلد المقدرة له ، ثم هى تحتاج بعد ذلك إلى استكمال فيما أعقب القرن التاسع عشر ، وإن كانت هذه مهمة غير مطروحة الآن ، وهى تمثل دعوة للعلماء للتقدم لاستكمال الدراسة الرائعة التى بذلها الأستاذ العقاد . راجيًّا أن تغنى فى بيانها الإشارة والإيماءة ، تاركًا للقارئ أن يعود إلى الأصل ليستوفى ما يحب ، وهو على أية حال جدير بالاستيفاء .
1ـ الدولة العثمانية
فى القرن التاسع عشر ، كانت المسألة الشرقية قائمة على هدف « محو » الدولة العثمانية ، بيد أن المتصارعين على التركة تختلف مواقفهم تبعًا لمصالحهم .
روسيا تتعجل التقسيم لتحتل القسطنطينية ومضايق البوسفور والدرونيل .
وفرنسا تتوسط بين العجلة والأناة ، لأنها كانت تكتفى بلبنان وسوريا وبيت المقدس .
وانجلترا تطمح إلى طريق الهند .
ولم تجد هذه الدول صعوبة فى إقلاق الدولة العثمانية ، لأنها كانت تستخدم سلاح الامتيازات الأجنبية وفقًا لهواها .
على أن الجدير بالنظر ، أن هذه السياسات الجهنمية لم تتورع عن خلق المذابح ، مذابح الأرمن وأرمينيا ، ومذابح لبنان ، ومذابح الإسكندرية !
ولم تجد الدول الكبرى فى تعللها بالمذابح للتدخل ، حاجة للتدخل أو حتى الاحتجاج ، فيما كان يجرى من مذابح فى روسيا والبلقان .
وتكأكأت علل الضعف والجمود والخلل على الدولة العثمانية ، فهزمت جيوشها هزيمة شديدة لم تتعودها ـ فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر .
وأفضى سوء السياسة المالية إلى إعلان الإفلاس ( سنة 1874 ) والعجز عن سداد الديون فى مواعيدها ، واعتمد الباب العالى على المضاربة بين الدائنين ومنح الامتيازات الاقتصادية .
واتخذ الباب العالى من الدولة البروسية سيما بعد انتصارها فى حرب السبعين ـ ذريعة للتخويف والتهديد ، فأعطاها سنة 1888 امتياز الخط الحديدى إلى أنقرة بعد امتداده فى المجر إلى القسطنطينية . وأتبعه بامتياز آخر لمد الخط إلى « قونية » مع اختراق الخط إلى الشام وبغداد .
ومن خطوط المواصلات الهامة التى تمت آنذاك فى منتصف القرن التاسع عشر وإلى نهايته : قناة السويس ( 1869 ) ، وسكة حديد الحجاز ( 1900 ـ 1908 ) .
واغتنم عاهل بروسيا : « ولهلم الثانى » الفرصة للتقرب لتركيا وللعالم الإسلامى بأسره .
وتطلع ساسة الترك إلى دولة أوروبية يعتمدون عليها فى تنظيم جيشهم ، فلم يطمئنوا إلى روسيا أو إلى انجلترا ، ورحبوا بالمساعدة الألمانية لتنظيم الجيش وتدعيم الأسطول ، ولكن على حذر .
وعند اشتباك الحرب العالمية الأولى ( 1914 ) ، استثارت دول أوروبا الغربية ـ استثارت تركيا لتدخل الحرب إلى جانب دولتى المحور ، لتجتذب الروس إليها طمعًا
فى القسطنطينية ، ولتضمن تعاون المتربصين بالرجل المريض من دول البحر الأبيض المتوسط .
2ـ إيران
كان على عرشها فى مفتتح القرن التاسع عشر ـ الشاه « فتح على شاه » من أسرة « قاحار » ، وُلّى بعد عمه « أغا محمد » الذى اشتهر بالصرامة والقسوة فى إخضاع ثوار الكرج وخراسان ، ولكنه لم يكن على شىء من خلائق المؤسسين والفاتحين ، إلاّ الطمع والفخفخة ، ودفعه سوء نظره وأسلحة غروره وحب التعظيم ، إلى التحالف مع بريطانيا العظمى على الأفغان لاسترجاع أقاليم فارس الشرقية ـ واستقبل مندوب شركة الهند الشرقية وعقد معه محالفة سياسية تجارية تتعهد فيها الشركة بإمداد فارس بالسلاح والمال فى حالة الاعتداء عليها من الأفغان أو فرنسا ، بينما تعهد الشاه بألاّ يعقد صلحًا مع الأفغان ما لم تنزل هذه عن مطالبها فى الهند .
ولم تمض على هذه المعاهدة بضع سنوات ، حتى التحمت فارس وتركيا فى الحرب التى انتهت بصلح « أرضروم » ، ثم حاربت روسيا فانهزمت وتخلت سنة (1827) عن أروان وتبريز ، وخذلتها انجلترا فى هذه الحرب فاستدارت إلى مجاراة روسيا ، ثم تفاهمت مع حكام الهند بعد أن هاجمت « هرات » ، وفى سنة 1856 م أشهرت انجلترا الحرب على فارس ، واحتلت « بوشير » و« المحمرة » ، وتراجع الجيش الإيرانى عن أرض الأفغان .
وفى سنة 1864 م ، أُنشىء أول خط تلغرافى بين بغداد وطهران وبوشير ، على اعتباره توصيلة للخطوط الهندية .
واستمر السباق بين انجلترا وروسيا على كسب الامتيازات ورخص الحكومة الإيرانية ، واحتل الروس مدينة « مرو » واستولوا على بلاد التركمان سنة 1884م ، وتوالت الامتيازات .
وبعد سنة من امتياز استغلال مناجم الذهب والفضة سنة 1889 م ، تصدى « جمال الدين الأفغانى » لإحباطه ، ثم تمادى الشاه « ناصر الدين » فى الاقتراض وبذل الرخص ورهن الموارد ، فتمكن جمال الدين الأفغانى من الإثارة ضده وعصيانه واغتياله ، فقتل سنة 1898م ، وقيل إن قاتله صاح وهو يضربه « خذها من جمال الدين » .
وجلس ابنه « مظفر الدين » على العرش ، فأصبحت إيران نهبًا مقسمًا بين النفوذيين ومساعى المستغلين من الجانبين ، واحتاج الشاه بعد سنتين إلى قرض آخر فأمدته به روسيا مقابل الترخيص لها بمدّ السكة الحديد من « جلفة » إلى « تبريز» ثم « طهران » .
ولما كثرت المطالب والرهون على مكوس الجمارك ، وضعت الإدارة كلها فى عهدة
« نوس » البلجيكى وكادت الدولة أن تشهر إفلاسها ، وتفاقم سخط الشعب على الشاه وعلى وزيره « عين الدولة » ، فأسرع الشاه إلى عزل الوزير والمناداة بالدستور ، ولكنه مات غيظًا بعد أسابيع فى ديسمبر 1906 .
أما روسيا وانجلترا ، المتنافستان على أسلاب فارس ، فقد قابلتا إعلان الدستور بالاتفاق الودى المعروف باتفاق سنة 1907 .
ولم تمض على هذا الاتفاق سنة واحدة ، حتى كان الشاه الجديد « محمد على » ألعوبة فى يد الروس لأنه آثر هذا الخضوع للدولة الأجنبية على الخضوع لأحكام الدستور !
واغتنمت انجلترا الفرصة ، فأنشأت الشركة الإنجليزية الفارسية لاستخراج النفط فى جزيرة « عبدان » .
واشتد الشعور الوطنى ، فهجم الزعيم « البختيارى » على « قولى خان » ، وعزل الشاه . ثم ظهرت السياسة الأمريكية فى الميدان ، وأطلقت روسيا الشاه من مأواه وأرسلته إلى « استراباد » ، وظلت فارس ـ أو إيران ـ فى قبضة الروس إلى ما بعد إعلان الحرب العالمية الأولى سنة 1914 .
( يتبع )