الديمقراطية الاجتماعية
غالبًا لا تنشأ الديمقراطية السياسية ، إلاَّ بعد أن تسبقها ديمقراطية اجتماعية ، فهى التى تمهد لها الأرض ، وتعاونها بالفكر والشعور على قضاء حقوق المجتمع وأداء فروضه وواجباته .
والتعاون والتكامل والتساند ، من مقومات الجماعة الإسلامية ، ومن عناصر هذا التكافل: :التعاون بالرأى والعمل والخلق والشعور ، فذلك كله فريضة على كل فرد فى المجتمع الإسلامى ، وتقترن بالمجتمع اقتران لزوم .
ويعقب الأستاذ العقاد ، بآيات من القرآن الكريم تؤيد وجوب التساند ، والتناهى عن المنكر ، وتوضح أن الخسران إن قامت أسبابه يصيب الجميع إلاَّ من تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وأنه لا نجاة لإنسان إلاَّ أن يصادق عمله إيمانه ، وأن يقتحم العقبة كفك الرقاب وإطعام فى أيام المسغبة لليتامى والمساكين ، والتواصى بالصبر وبالتراحم ، والتعاون بالإحسان فى جلب الخير ودفع الأذى .
« وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ » (المائدة2) .
« وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ *
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ »
( البلد12،13،14،15،16،17) .
« وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (آل عمران 104).
إلى آيات أخرى عنى الأستاذ العقاد بإيرادها .
فإذا ما وجب الجهاد ، وجب التذكير والنصح لينفر الناس للقيام بواجبهم فى الدفاع عن الأمة..
« وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » (التوبة122)
* * *
ولا شك أن علماء الأمة مندوبون للنصح والتذكير ، ولكن طلب العلم فريضة على الجميع .. على كل مسلم ومسلمة كما جاء فى الحديث الشريف .
والدعوة إلى التناصح والتآزر مؤكدة مشددة فى القرآن الحكيم ، ولكن الأحاديث النبوية تعود إلى توكيدها وتشديدها ، ومن أحاديثه الشريفة الجامعة لعناصرها قوله عليه الصلاة والسلام : « لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم » .
والمجتمع الذى يؤمر فيه الفرد بذلك ، مجتمع غنى بالديمقراطية الاجتماعية ، وهى الأساس الذى لا غنى عنه للديمقراطية السياسية .
وقد كان من الميسور فى عهد الخلفاء الراشدين أن يتصدى أصغر الناس لتذكير اكبر الناس ، وكان أشدهم فى قبول التذكير ـ الفاروق عمر بن الخطاب ، وكان يقول على الملأ : « رحم الله امرءًا أهدى إلينا عيوبنا » ، ويحمد الله أن فى أمة محمد ـ من يقوّم الخليفة بسيفه إذا رأى فيه عوجًا .
وكان الناس يسمعون ذلك ولا يستغربونه ، حيث كانت مبادئ وقيم الإسلام غالبة ، والناس يسارعون إلى تلبيتها ، وفيما عدا فترات الهبوط ، ظلت قيم الديمقراطية الاجتماعية أساسًا يقوم عليه المجتمع ويمثل الركاز الأساسى للديمقراطية السياسية .
الأخلاق الديمقراطية
وجملة الأخلاق الديمقراطية ، هى ما يسرى فى مجتمع لا سيادة فيه لطبقة على أخرى ولا استئثار بالسطوة لأحد دون أحد .
وقد أمر الإسلام بأخلاق ونهى عن غيرها ، وأوامره فى ذلك موجهة إلى الناس جميعًا ، وصالحة للأخذ بها فى مجتمع ركازه المساواة فى الحق والتعاون بين الجميع أياًّ كانت حظوظ كل منهم من القوة والضعف أو من الثراء والفقر .
وتتلخص هذه الأخلاق الإسلامية أو الديمقراطية ـ فى شميلة « السماحة » التى تحكم جميع العلاقات .
وقد جمع الأستاذ العقاد مظاهر هذه الشميلة فى تطبيقاتها المتعددة ، مستشهدًا فى كل موضع بآيات القرآن الكريم وبالسنة النبوية .. فالكبير يرحم الصغير والصغير يوقر الكبير ، والكبرياء خلّة ذميمة ، والقول الحسن واجب ، وليس لأحد أن يسخر من أحد ، ولا أن يغتابه فللمرء حق فى غيابه كحقه فى حضوره ، وتعددت أحاديث الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام فى عيادة المريض وإتباع الجنازة وتشميت العاطس وإجابة الداعى وإفشاء السلام . ويوجب الإسلام الإحسان كما يوجب العمل ، والحقوق مؤداه إلى أصحابها بغير تسويف أو مماطلة ، والوفاء بالحقوق قوامه المودة والمعونة ، ومن صفات المؤمن أن يكون من الكاظمين الغيظ العافين عن الناس ، والإصلاح بين الناس ، واحترام المجالس ، ومراعاة الرفق فى كل شىء حتى فى أداء الفريضة ، ومن تمام الأدب أن يلتزمه الإنسان مع خادمة ، وجعلت الأحاديث النبوية « الحياء زينة » ، وأمر القرآن الكريم بشمائل منها « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ » (الأعراف 199) .
* * *
ويشير الأستاذ العقاد إلى أن وقائع التاريخ تروى لنا مئات من المواقف التى التزمت هذه الآداب طواعيةً ومحبة ، ومن ثم كانت الديمقراطية المثالية فى آداب السلوك والمعاملة هى شرعة الواقع فى عهد النبى وخلفائه وتابعيه .
وكان الخليفة الأول : الصديق ، يجلب لجاراته الضعاف ، ويتبادل عمر ركوب الدابة مثالثةً مع غلامه ، ولا يكاد الغرباء يعرفونه بغير أن يهديهم إليه أحد ، وكانت السنة فى آداب هؤلاء أن يشتد من يشتد على نفسه ولا يلزم غيره بهذه الشدة فى غير فريضة واجبة .
واجتمعت بهذه الأخلاق للإسلام « الديمقراطية » فى الآداب والاجتماع ، وفى السلوك وفى الضمائر ، يصعب أن تراها بهذا الاكتمال والتساند فى أى مجتمع آخر ينشد الديمقراطية .