الشورى
القرآن الحكيم صريح فى وجوب الحكم بالشورى ، بل وأوجبه على النبى عليه الصلاة والسلام نفسه ، وجوبًا لا يدع لأحدٍ من بعده عذرًا فـى الإعفـاء منه ، فيقـول الحـكم العدل سبحانه وتعالى « وَأَمْرُهُمْ شُورَى » ( الشورى 38 ) ، ويقول آمرًا نبيه عليه الصلاة والسلام : « وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ » ( آل عمران 159 ) .
وفى السُّنة النبوية وقائع ثابتة شاور النبى عليه السلام فيها أصحابه ، فى موضع النزول ببدر ، وعلى الماء هناك ، وفى تطعيم النخيل ، وفى تقرير الهجرة إلى الحبشة ، والهجرة بعدها إلى يثرب .
التضامن فى المسئولية
ومن تمام المسئولية الفردية ـ تكافل الأمة فى المسئولية العامة ، فحق الفرد مرتبط بالمجموع ، وللمجموع حقوق على الفرد ، والمسئولية فى المسائل العامة مشتركة ، تستطيع أن ترى ذلك بوضوح فى قوله تعالى : « وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً » ( الأنفال 25 ) ، فالفتنة لن تقتصر آثارها الضارة على الذين ظلموا خاصة ، وإنما سيعم ضررها على الجميع ، ولذلك على كل فرد أن يدفع الشر جهد ما يستطيع ، فلا تكليف خارج القدرة والاستطاعة ، فلا يكلف الله نفسًا إلاَّ وسعها ، ولا يصاب المرؤ بضلال غيره ولا يحاسب عليه شرعًا : « لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » ( المائدة 105 ) .
* * *
وعلى هذه الأسس تقوم الديمقراطية فى أى بيئة ، وهى واضحة أصيلة فى الإسلام قرآنًا وسُنة .
وليس يهم ما تُعَرَّف به الحكومات من مصطلحات ، إذ العبرة بالأسس والمقومات ، ومن ثم لا يغير من واقع الديمقراطية فى الإسلام أن هذا اللفظ لم يكن مصكوكًا بحرفه عند المبعث ، وأنه من مفرزات العصور الحديثة ، فالثابت الذى لا مرية فيه أن كل مبادئ الديمقراطية حاضرة ثابتة بوضوح فى القرآن المجيد والسُّنة النبوية .
وفضل الديمقراطية الإنسانية على الديمقراطية عامة ، أنها لم تُشرع إجابةً لطلب أو خوفًا أو اتقاءً لغضب . بل إن هذه الديمقراطية شرعت وهى تغضب الأقوياء ولم يطلبها الضعفاء .
وقد كان أقوياء المشركين خاصة لا يحسبون للضمير الإنسانى كرامة وهم ينتزعون الربا انتزاعًا من أرزاق الفقراء والأجراء والمحتاجين ، وكانت « المساعاة » وسيلة مشروعة عندهم فى استقصاء الديون ، وهى تجيز لهم أن يدفعوا بزوجة المدين أو ابنته إلى البغاء لتؤدى لهم القرض وفوائده بثمن العرض ، وتجيز لهم تسخير المدين فيما يشاءون كما كان جائزًا فى شريعة الرومان الأقدمين !
حكومة الكون
لا شك أن عقيدة الإنسان ـ ميزان أخلاقه وعنوان آرائه فى الحق والعدل والمعاملة المثلى والحكومة الصالحة ، ولم يُعْهد فى أمة من الأمم أنها ارتقت بمثلٍ أعلى ـ فى العدل والصلاح ـ مما تستمده وتقتديه من الرب الذى تعبده وتأخذ نفسها بطاعته .
ولو نظرنا إلى آراء الفلاسفة الذين يُضرب بهم المثل فى قوة التفكير والخلاص من الشوائب ، لوجدناهم أنفسهم مثلاً لتلك الظاهرة .
ويرى الأستاذ العقاد أن الثابت من تواريخ العقائد والشرائع والأنظمة الحكومية ، أن الناس لم يطلبوا قط نظامًا لحكوماتهم أعلى وأرفع من نظام الكون كله .
وهذه الحقيقة تنطبق على المسلم كما تنطبق على سواه ، إلاَّ بفارق واحد .
هذا الفارق الواحد فيه كل العبرة وكل الدلالة ، فالمسلم لم ترتق آراءه فى الحرية ومبادئ الحكومة اقتداءً بنظم سابقة ، وإنما كانت تابعة لعقيدته الإلهية لا سابقة لها ، حيث آمن بإله قادر عادل قبل أن تتمثل له هذه الضوابط فى تطبيقات الحكومات .
والواقع أن المسلم الذين يدين بهذه الصلة الإلهية ـ يدين معها بالسنن التى لا تتبدل ولا تتحول ، وقد تكررت الإشارة إلى هذه السنن فى القرآن الحكيم مرات متعددة ، وفى مناسبات شتى .. منها :
« سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً » ( الأحزاب 62 ) .
« فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاَ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلاَ »( فاطر 43 ) .
ومنها : « فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ » ( الأنفال 38 ) ، ومنها : « وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ
الأَوَّلِينَ » ( الحجر 13 ) .
فالحكومات الكونية فى اعتقاد المسلم ، حكومة ذات قوانين وليست بحكومة الفوضى ولا الهوى .
وهى على ذلك لا تدين أحدًا ، ولا تقيم مسئوليته ، بغير بلاغ وبيان ونذير :
« وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً » ( الإسراء 15 ) .
« وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ » ( فاطر 24 ) .
« وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ » ( يونس 47 ) .
الإنسان عامل من عوامل سنن الله فى الكون
ومع اعتقاد المسلم أن سنة الله تعالى غالبة فى كل شىء ، فإنه يعتقد أيضًا أن إرادته سبحانه قد جعلت الإنسان عاملاً من عوامل سنن الله ، وليس بعالة على الكون أو لغوًا
فيه ..
« ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » ( الأنفال 53 ) .
ولم ينف القرآن المجيد صفةً عن الله سبحانه ـ كما نفى عنه جل وعلا صفة الظلم خاصة ، ولم يرو هلاك أقوام بآفة أشنع من آفة الظلم ، ولا سيما ظلم الضعفاء .. ومن هذه الآيات :
« وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ » ( فصلت 46 ) .
« وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ » ( ق 29 ) .
« ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بظلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ » ( الحج 10) .
« إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (يونس 44) .
« وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا » ( الكهف 49 ) .
« إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا »
( النساء 40 ) .
* * *
وقد اقترنت هذه الآيات القرآنية وغيرها ، بذكر العبر والعظات فى قصص الأمم السابقة التى هلكت بظلمها وطغيانها ، والعروش التى دكت وانمحت آثارها لأن القائمين عليها كانوا ظالمين .
وهذه هى الحكومة الكونية فى عقيدة المسلم ، مسيّر الكون هو خالقه عز وجل ، فهو القادر على كل شىء الفعّال لما يريد ، ولكن هذه الحكومة لها سنن وشرائع ، ومبلغون ومنذرون ، وكل إنسان فيها مسئول عن عمله « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا » ( الإسراء 13 ) .
ولم يكف هذه الحكومة الكونية أن يكون البلاغ قائما ، والنذير سابقا ، بأن يعلم المسئول ذنبه بنفسه ، ويعلم بماذا ولأى سبب أدين ، وكيف كان ويكون الحساب .
فإذا آمن الإنسان بحكومة الكون على هذا المثال ، استحى أن يدين لمخلوق مثله بحق أكبر من هذا الحق أو أن يدين له بأكثر من هذه الطاعة ، ومن ثم تجيئه الديمقراطية القائمة على العدل والإنصاف والمساواة من أوسع سبلها .