ليكرغ
كانت بداية هذا النظام على يد « ليكرغ Lycurgues » فى القرن الثامن قبل الميلاد , وقيل إنه استشار فيه الآلهة بمعبد « دلفى » , وقال له الوحى إنه مأذون فى وضع النظام الذى يرتضيه , وخلاصة نظامه الذى ارتضاه أن يقوم على الحكم ثلاثون زعيمًا منهم ملكان لهما سلطان واسع فى أيام الحرب , ولكن لا يمتازان بسلطان كبير فى أيام السلم بين سائر الزعماء , وكان انتخاب هؤلاء بطريقة توافق زمنهم .
ويقوم الثلاثون المختارون على النظر فى الشرائع ويشرفون على الوظائف , ويعرضون القوانين على الشعب فى ساحته الكبرى ليقر القوانين أو يرفضها ولكن لا يجوز له تنقيحها أو تبديلها , وكان « ليكرغ » هو الذى يشرع الشروط التى يؤخذ بها وكلاء الشعب بعد الانتخاب , فكان يلزمهم أن يقسموا ثروتهم بينهم بحيث لا يزيد أحد على الآخر بالملك والمال , وربما نقموا عليه شدته فى شروطه فثاروا عليه ورجموه بالحجارة , ولكنه كان يحتمى منهم بالشعب , وقد حماه بالفعل مرة .
فى أثينا
أما فى أثينا , فكانت حكومة الشعب أمانة فى أيدى أفراد من الحاكمين , يأتمرون بأمر أشهرهم صولون Solon وبزيستراتس Pisistratus وكليستنس Cleisthenes وبركليس Pericles .
وقد ابتدأت حركة الإصلاح على أيديهم بعد ابتدائها فى اسبرطة بأكثر من مائة سنة , وأفتتحها صولون بتشريعاته ودساتيره لاتقاء الفتنة وقمع المطامع لأصحاب الأرض والمال , وكان الدستور الأثينى فى أوجه يكل الأمر إلى جماعة فى خمسمائة عضو منتخب ينتخبهم أبناء البلد الأحرار , ويُختار خمسون من كل قبيلة من القبائل العشر , وكل قبيلة تشتمل على السكان فى أماكن شتى ولا تنحصر فى سلالة معينة ولا فى مكان واحد , ويجرى الحكم بالتناوب بين مجموعات كل منها من خمسين عضوًا .
وكان أرسطو لا يرضى عن هذا النوع من الديمقراطية ويحسبه انحدارًا من حكم الكثرة إلى حكم الواحد , وكان أستاذه أفلاطون يرى من قبله أن نظام الوكيل المفوض خطوة بين الملكية المطلقة وحكومة الأشراف ثم الحكومة الشعبية , ثم عدل عن رأيه هذا بعد مراقبته للتجارب , واعتقد أن الوكيل المفوض نتيجة لازمة لغلبة الدهماء والجهلاء .
* * *
ويعقب الأستاذ العقاد بأن البادى من هذه الخلاصة السريعة , أن الديمقراطية كانت فى اليونان القديمة من قبيل الإجراءات أو التدبيرات السياسية لاتقاء الفتنة والاستفادة من جهود العامة فى أوقات الحرب على الخصوص , ولم تكن هذه الديمقراطية قائمة على الحقوق الإنسانية أو منظورًا فيها إليها .
ولم يتغير معنى الديمقراطية هذا حين تعرض الفلاسفة للكتابة فى أنواع الحكومات , وكانت المساواة فى كتب الفلاسفة مقصورة على أبناء اليونان دون الغرباء أو الأرقاء ! والرعية بمثابة قاصرين بحاجة إلى أوصياء .
* * *
ومعلوم فيما يقول , أن روما القديمة كانت تتلمذ على بحوث فلاسفة اليونان , ولكن هذه البحوث لم يكن لها أثر فى تقرير نظام الحكومة .
ويضيف أن الشعب قد استطاع أن يحصل على بعض الضمانات التى يعتمد عليها فى مراجعة ذوى السلطان , وأصبحت موافقة وكلائه لازمه على الأحكام الكبرى , ولكنها كانت كلها ضمانات سلبية للمنع والوقاية لا للفعل والتوجيه , وبقى التصرف فى الأموال العامة والسياسة الداخلية والخارجية مقصورًا على النبلاء .
وظل ملحوظًا أن « المواطن الرومانى » هو دون غيره ـ المقصود بالمساواة القانونية , ولم يتعد كلام « شيشرون » عن المساواة الطبيعية بين الناس فى كتابه الموسوم بالقوانين , أن يكون أشبه بالمساواة فى حدود التعريفات المنطقية والصفات الطبيعية , ولم يستوجب العدل والمساواة , وهى نزعة ترددت عباراتها فى أقوال المشرعين والفقهاء , إلاَّ أنها لم تجد مجالاً للتطبيق .
ومن الواضح إذن ـ فيما يعقب الأستاذ العقاد ـ أن هذه الديمقراطية لم تقم على الحق الإنسانى المعترف به لكل إنسان , وأنها كانت أقرب إلى الضرورة العملية منها إلى المبادئ الفكرية والأصول الخلقية , ويصدق على هذه الديمقراطية التى تفرضها الضرورة أنه يتساوى فيها فضل التشريع وفضل الطبيعة , وأنها لم تعط حرية ولاحقًّا يمكن لصاحبه أن يأخذه ما لم يعطه أحد من أصحاب السلطة أو يمنعه , وليس هذا هو مقصد بيان تقرير الحقوق وإقامة الدساتير . ( يتبع )