رقم هاتف المكتب

٩٩١ ٥٨ ٠١٠٠٠٠

البريد الإلكتروني

[email protected]

أوقات العمل

الأحد إلى الخميس: ٩ ص - ٣ م

تابع القدر فى الدعوة المسيحية

   وأكبر الفلاسفة الدينيين فى المسيحية بعد القديس « أغسطين » هو القديس « توما الأكوينى » ، وهو يوافق أستاذه القديم أغسطين ، ويرى أن الإنسان يقود نفسه ، وأن الإرادة تتبع العقل والعقل من نعم الله ، وغاية التقدير ( القدر ) عنده كفاية التقدير ( القدر ) عند أستاذه أنه علم سابق من الله .

     ولكنه يخالف أستاذه أغسطين فى نصيب الأطفال من الرحمة ، فيقول إن الخطيئة أضعفت جانب الخير فى الإنسان ولكنها لم تطمسه نهائيًا ، وأن هذا الجانب الباقى هو الذى يعينه على تقبل الكفارة والخلاص .

   وظل الفقهاء الدينيون يقولون ـ فيما يبدى العقاد ـ بأن السقوط الذى أصاب الإنسان فى الخطيئة ، هو سقوط من عالم « ما فوق الطبيعة » إلى عالم الطبيعة . فلما قام « لوثر » بدعوته فسر السقوط بأنه مسخ للطبيعة وعزاه إلى الشيطان ، خلافًا « لكالفن » ـ Calvin ـ الذى عزاه إلى مشيئة الله لحكمةٍ يعلمها فى سابق أزله .

   وقد سمحت حرية البحث فى العصور الحديثة لبعض الفقهاء أن ينكروا مسألة الخطيئة ، وأن يعلن رجل كالدكتور « كيرلس النجتون » فى كتابه « قال الأحمق » : « إن إدانة أجيال قبل أن تولد من جراء خطيئة آدم عسير أن توصف بالعدل . وإذا كانت هذه هى عقيدة المسيحية فإنه عسير علينا أن نزكيها أمام ضمير الأمة ! »

     على أن قرار الكنائس فى هذا الشأن ، شىء آخر غير بحوث الفقهاء من أتباع الكنيسة ، فهى أراء تتساند إلى المنطق العلمى لا إلى نصوص الدين .

ظهور الدعوة الإسلامية

     ولما ظهرت الدعوة الإسلامية ، نهض المسلمون بالحصة الكبرى فى مباحث القضاء والقدر ، حيث طُرحت للبحث من جوانب متفرقة يتلاقى فيها أصحاب الدين والتفسير ، وأصحاب السياسة والخلافة ، وأصحاب العلم والفلسفة ، وأصحاب الجدل والمناظرة مع أبناء الأديان الكتابية وغير الكتابية الذين اختلط بهم المسلمون فى بقاع الدولة .

   ولا يوجد قول فى مسألة القدر لم يرد له ذكر بنصه أو معدلاً أو منقحًا ـ على لسان طائفة من طوائف المسلمين ، ويجملها الأستاذ العقاد فى المذاهب الثلاثة التى ينقسم إليها المتكلمون فى كل مسألة من المسائل الكبرى ، وهم : جماعة الغلاة فى الإثبات ، وجماعة الغلاة فى الإنكار ، وجماعة المعتدلين المجتهدين فى التوفيق بين هؤلاء وهؤلاء .

   أو هم فى مسألة القدر خاصة : جماعة الجبريين ، وجماعة القدريين الذين أطلق عليهم هذا الاسم لأنهم يقولون باختيار الإنسان مع القدر خلافًا لما يسبق إلى الذهن من مدلول لفظ « القدريين » ، ثم جماعة المعتدلين من أهل السنة المتوسطين بين القول بالجبر والقول بالاختيار .

     وأول القائلين بالجبر فى صدر الدولة الأموية « جهم بن صفوان » وأتباعه ومريدوه . وكانوا يقولون إن الله خلق العباد . وخلق لهم أفعالهم ، وزعموا كما قال الشريف المرتضى ـ إن ما يكون فى العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله فاعله . وإن لله تعالى أن يعذبه عن ذلك على ما يشاء ويثيبه على ما يشاء ..

   ومذهب أبى الحسن الأشعرى قريب من مذهب جهم بن صفوان ، فخلاصة مذهبه أنه لا تأثير لقدرة العبد فى مقدوره أصلاً ، ويرى الأشعرى أن العبد مكتسب لأفعاله بقدرة يملكها ساعة الفعل ولا تسبقه ، ولكنه لا يخرج بهذا التخريج عن مذهب الجبر ، حيث ينفى قدرة التأثير عن العباد ، ويرجع بها إلى تفسير واحد هو إرادة الله .

     ويروى الأستاذ العقاد سؤالاً طرحه الأشعرى على أستاذه أبى على الجبائى ، وما جعل يحاوره به فى إجابته ، ليخلص إلى أن مراد الأشعرى بهذه الأسئلة أنه مهما يقل القائلون فى تعليل التفرقة بين أهل الطاعة وأهل العصيان ، فإن مرجع ذلك فى النهاية إلى علة واحدة هى إرادة الله .

   ويرى بعض الجبريين المعتدلين ، أن الفعل من حيث هو ـ واقع بقدرة الله ، وأنه واقع بقدرة العبد من حيث كونه طاعة ومعصية .

     ومن الآيات التى يعتمد عليها الجبريون « وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ » ( الصافات 96 ) …« إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ » ( التكوير 27 ـ 29 ) … « وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ » ( يونس 99 ) … « خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ » ( البقرة 7 ) … « بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ » ( الرعد 33 )
« وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا »
( السجدة 13 ) .

*            *             *

   أما القدريون فهم من المعتزلة ، ويسمون أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد ، لأنهم يزعمون أنهم ينفون الظلم عن الله ، ويقولون إن الإنسان حر فيما يفعل من خير وشر ، فالله لا يجبره على الشر ثم يعاقبه عليه فيظلمه بذلك .

   وعند القدريين أن سوء الاختيار الذى علم به الله فى سابق علمه الأزلى ـ هو الذى أوجب ما قضى به الله عليهم من طاعة أو عصيان . ولو لم يكن الإنسان قادرًا على الفعل والترك لما وجب التكليف ..

   ومن الآيات التى يعتمدون عليها فى إثبات دعواهم « وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ » ( فصلت 46 ) … « ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ »
( الأنفال 53 ) … « كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » ( الطور 21 ) … « الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ » ( الجاثية 28 ) … « وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى » ( الإسراء 94 ) … « وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم »
( البقرة 109 ) … « لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ » ( المائدة 80 ) … « رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ » ( الأعراف 23 ) …« رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي »
( القصص 16 ) … « قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي » ( سبأ 50 ) … « وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم » ( إبراهيم 22 ) .

     ولا يخفى فيما يقول الأستاذ العقاد ـ أن المعتزلة المتأخرين نظروا فى آراء فلاسفة اليونان أو عرفوا صفات الله عندهم ولاسيما صفته ـ سبحانه ـ عند أرسطو معلمهم الأول ، وهى صفة المحرك الذى لا يتحرك ، فلم يجدوا صعوبة فى القول بحرية الإنسان وعمله بمعزله عن القضاء والقدر ، وإن كان التكليف ينقض رأى أرسطو كما ينقضه القول بالثواب والعقاب .    ( يتبع )

 

المقالات الموصى بها

اكتب تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *