أصدر الأستاذ العقاد هذا الكتاب الرائع ، فى طوالع البعثة المحمدية أو « مطلع النور » ، سنة 1955 ، بعد خمس عشرة سنة من إصداره « عبقرية محمد » سنة 1940 ، وبين الكتابين وبعد ثانيهما ـ كتب الأستاذ العقاد كثيرًا عن رسول القرآن عليه السلام ، وقد اخترت أن أبدأ بكتابه « مطلع النور » فى طوالع البعثة المحمدية ـ لأنه عن الرسالة ، طوالعها ومقدماتها ومعالمها ، ثنَّى بعده بعبقرية محمد الذى هو اقتراب وتعرف على الشخصية المحمدية وكوامن العظمة والعبقرية فيها .
وتستطيع أن تقول ما قاله العقاد إن « مطلع النور » هو عنوان هذه الصفحات .
وإن مدار البحث فيها على البعثة النبوية المحمدية ، وما تقدمها من أحوال العالم ، وأحوال الجزيرة العربية ، وأحوال الأسرة الهاشمية ، وأحوال أبويه الشريفين ، ومقدمات الرسالة وطوالعها ومعالمها ..
وهو يبدأ سطور الكتاب بعدة تساؤلات تفرض نفسها ..
كيف نشأت ديانة الإنسانية بعد ديانات العصبية والأثرة القومية ؟
وكيف نشأت نبوة الهداية بعد نبوة الوقاية والقيادة ؟
وكيف أصبحت المعجزة تابعةً للإيمان ، بعد أن كان الإيمان تابعًا للمعجزة ؟
وكيف ظهر الإسلام بعد عبادات لا تمهد له ، ولا يبقى عليها ؟
أما المقدمات فلم تكن واحدة ..
منها مقدمات لم تكن واحدة منها ممهدة لنتائجها ، فهى وإِنْ مهدت لها خطوة أو خطوات فى الطريق ، قد تعود وتنكص بعد ذلك خطوات وخطوات .
وهذه هى المقدمات التى لا تأتى بعدها النتائج الصالحة ـ إلاَّ بعناية الله وقوانين الكون وعوامله التى ساقها سبحانه إلى حيث يشاء ..
فليست الجاهلية ـ مثلاً ـ مقدمة للإسلام .
مثلما أن الفساد فى العالم ليس سببًا فى الإصلاح ، وإن دفع إلى الرغبة فيه ..
وعلى ذلك فليست قريش ولا جزيرة العرب ولا دولة القياصرة ولا أبهة الأكاسرة ـ هى التى بعثت محمدًا عليه الصلاة والسلام ـ لينكر العصبية على قريش ، ويعلم العرب تسفيه التراث الضرير الموروث بالاعتياد عن الآباء والأجداد ، أو ليهدم العروش التى قام عليها جبابرة الطغاة وتألّهوا بها من دون الله ..
وإنما كان هؤلاء وأولاء ـ المرضى الذين شفتهم البعثة المحمدية بغير سعى منهم إلى الشفاء ..
أو تلك ـ إن شئت ـ هى المقدمات ونتائجها كما ترسمها وتتجه بها عناية الله ..
هذا رسول يوحى إليه فيصنع الأعاجيب ..
جاء بدين الإنسانية فى أمة العصبية ..
جاء ينكر كل إله ـ أو صنم ـ غير الواحد الأحد فى عالم يؤمن بكل إله ـ أو صنم !!! ـ غير الواحد الأحد ـ رب العالمين ..
هل يقدر شخص واحد على كل ذلك ؟
أجل ، محمد عليه السلام قدر عليه بعناية الله ..
ولولا تدبير من الله ، لما ادخرت جزيرة العرب لهذه الرسالة لتخرج بالتاريخ الإنسانى كله إلى عالم جديد .
* * *
يعدك الأستاذ العقاد بأنك سترى فى هذه الصفحات كيف تتناقض النتائج والمقدمات
فلا تستقيم إلاَّ بمقدمة واحدة .. وهى رسالة النبوة وعناية الله
الطوالع والنبوءات
جرت المقدمات التى سبقت البعثة المحمدية على نوعين :
مقدمات ترتبط بما تلاها من الحوادث ارتباط الأسباب بالمسببات .
ومقدمات لا ترتبط بما تلاها هذا الارتباط ، بل لعلها تناقضها وتؤدى إلى خلافها ، ولكنها ترتبط بها ارتباط الداء بالدواء الشافى .. فليست النتائج هنا وليدة المقدمات ، بل هى العلاج والآية الإلهية التى تحول الأسباب الطبيعية إلى طريق الحكمة الأبدية ..
رائد الأستاذ العقاد فى بحثه ـ كما يفصح ـ هو التفكر فى مُلْك الله ـ وهذا التفكير هو فريضة الإسلام الكبرى ـ والنظر بالعقل فى حقائق السماوات والأرضين ..
رائد البحث فى المقدمات ، يقود الباحث إلى أن إرادة الله تعالى ظاهرة فى ملكه وآيات خلقه .. والناس مطالبون بالنظر فى هذه الإرادة قبل النظر فى الخوارق والمعجزات ..
وعلى هذا مدار السؤال حول المعجزات والخوارق .. هذه الخوارق التى كانت حجج صدق لبعض الرسل والأنبياء لإقناع المخاطبين بصدق التعبير عن الواحد الأحد رب
العالمين .
ليس السؤال هو هل المعجزة ممكنة أو غير ممكنة ، فالعقل المنكر أن المادة لا توجد إلاّ َ هكذا ـ هو أضيق العقول التى تسرع للإنكار بينما تصدق بأى شىء بغير بحث ولا برهان !
ولكن السؤال : هل المعجزة لازمة أو غير لازمة ؟ وهل كان أم لم يكن لها أثر مشهود فى الإقناع بالدعوات ؟
ذلك أن الله جل وعلا يضع قوانين الطبيعة لحكمة ، ويخرقها لحكمة .. وأمره سبحانه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون .
والعلامة التى لا التباس فيها ولا سبيل لإنكارها ، فهى علامة الكون أو علامة التاريخ .. وقد قالت حوادث الكون إن الدنيا كانت فى حاجة إلى رسالة ، وقالت حقائق التاريخ إن محمدًا ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو صاحب تلك الرسالة ..
ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون ، وعلامة التاريخ ..
(يتبع )