وقد أجرى الماديون التاريخيون تقسيمًا نبذوا به ما أسموه أدب أو فن « البرج العاجى » ، ويقصدون به ما ينشغل بوصف الطبيعة وجمالها ومحاسنها دون ما يتبعها من المنفعة الاقتصادية ، أو ينعكس أثره فى أحوال المعيشة .
ولا يوافق العقاد على هذه التسمية ولا على هذه التفرقة ، فلا يخلو أى أدب من أثر مطلوب ، فالشاعر الذى ينبه النفس إلى صدق الشعور ـ يزيد إحساس المتلقى من الإحساس بالحياة ، ويعطيه بذلك قيمة حيوية لا تحسب من اللغو والفضول ..
فأين يضع الماديون هذه المحاسن ، وما تنبته الطبيعة من أزهار ونباتات ، وما ترسله حناجر الطيور من أنغام ، وما تبدعه جميع الفصول .
وهذا التساؤل يمتد به العقاد ـ بلا مزاح ـ إلى لحية « كارل ماركس » التى أضفاها حول وجهه وحملها طول حياته ، فيتساءل ما مكانها من الزينة والضرورة ؟ وما مكان هذه وتلك من وسائل الإنتاج ؟!
وهل ما إذا آل المجتمع إلى طبقة واحدة ، يكون ذكر وسائل الإنتاج شرطًا للأدب المرتضى ؟!
* * *
ومن التقسيمات التى جرت ويرى العقاد أنها ضللت العقول ، تقسيم المطالب العامة إلى ضرورات وكماليات ، والاسترسال من ذلك إلى ضروب من الترتيب وما هو الأولى بالعناية أو أحق بالإهمال ..
لا خلاف على تفاوت أهمية أو مدى لزوم المطالب ، إلاَّ أن ذلك لا يستوجب ولا يبرر إهمال المطالب التى لا تلزم فى كل حين .
وعلى ذلك فليست الفنون الجميلة من الكماليات ، بل وفى عناصر بعضها ما يعد من الضروريات ، وقد تغيب هذه الضرورة عنا إذا اكتفينا بحركة وفلك الشمس دون أن نتعمق ما فى نورها وحرارتها من تلبيه حاجات وضرورات . إن الناس يتفاوتون ف استنباط العلوم وتحصيلها ، وقد تصادفهم عقبات فى طريق التعليل المادى للعلوم .
ويمضى الأستاذ العقاد فى تعقب ـ ونقد ـ الفكر المادى أو الماركسى فى التهجم على الحقائق التاريخية ، وفى الأسباب التى يفسرون بها كل ما فى الأرض والسماء ، أو فى اعتسافهم أن اختلاف وسائل الإنتاج والمنفعة والغرض ـ هو مناط تاريخ الإنسان الذى تتغير علومه ـ كالعلوم السياسية والفلسفية والدين والفنون والآداب .
ويتوسع العقاد فى تتبع هذه الآراء ، وفى مراجع العلوم كما بسطها « انجلز » ، أو شروحه لآراء أستاذه « ماركس » ، ويطوف فى بيان تهافتها بأقوال الفلاسفة القدماء ، والمحدثين ، مشيرًا إلى الفروق والنقائض والأضداد فى منطق الماديين ومذهبهم فى التشبيهات المجازية ، ليبدى أن هذه الألغاز المتضاربة هى التى دعت الهيئات الرسمية الشيوعية لتحريم مخالفتها أو تحليلها ، ويضرب لذلك مثلا بما جاء فى كتاب « لينين » :
« المادية والنقد التجريبى » ، ويستطرد من ذلك استطرادات بين المذاهب لا شك أنها تعيى القارئى العادى ، ولا تبرير لها إلاَّ أن يكون العقاد معنيًّا ـ كما فهمت ـ بإلقام الشيوعيين والماديين حجرًا فى إطار المعركة بينهم وبينه ، والتى تراها فى الخلفية الواسعة التى أراد بها إفحام معارضيه .
الأوطان والديانات
يرى العقاد أن الوطنية والدين ، لا يعدوان فى نظر الشيوعيين أن يكونا من أحابيل الاستغلال ، ولا مصدر لهما غير الوسائل الاقتصادية أو وسائل الإنتاج ، وهذا ما تفهمه من البيان المشترك للصاحبين « ماركس » و« انجلز » ، والذى يقولان فيما قالاه فيه إن العمال لا وطن لهم ، وإنه ليس بمستطاع أن يُؤخذ منهم ما ليس لهم ، أما الدين ، فرأى الماديين فيه ملخصه الكلمة المشهورة فى مقالة « كارل ماركس » عن هيجل . « إنه نفثة المخلوق المضطهد ، وشعوره بالدنيا التى لا قلب لها .. إنه أفيون الشعوب » .. ومثلها قوله عنه فى حرب الطبقات فى فرنسا : « إنه الأفيون الذى يخدر الشعب فتسهل سرقته » .
هذا هو لباب الفكرة الماركسية عن أصل الوطن والدين ، أما دينهم المفهوم فى تعليل جميع العقائد الوطنية أو الدينية ـ أنهم متى وصلوا إلى وسائل الإنتاج أخذوا كل حالة اقتصادية تصادفهم فجعلوها سببًا للعقيدة التى تعاصرها ..
* * *
إن دعاة الشيوعية شاهد قوى ـ فيما يقول العقاد ـ على صحة قول القائلين إن ملكة الخيال وملكة الفكاهة ضروريتان للبحث الفكرى كضرورة الفهم والمنطق والدراية . فقد كان « ماركس » و« انجلز » وأتباعهما على فقر شديد فى كلتا الملكتين ، ولم يكن لأحدهما نصيب من ملكة الفكاهة ولا من ملكة الخيال .
ولو قد تنبها لأدركا أن حكمة الخالق التى لا تدارى نفسها من أحد يريد أن يبصرها ، أقرب من تلك اللغة الطويلة التى يصطنعانها ، ولأدركا أن الوطنية ليست بحيلة من حيل الإنتاج لأنها خليفة العنصرية وشبيهتها فى خواطرها وبواطنها ، فالعنصرية بدورها ليست من حيلة أحد يقصدها أو لا يقصدها .. فهى علاقة الدم والقرابة التى لا اختيار فيها لخادع أو مخدوع . ولم يكن شعور الوطنية أو العنصرية وقفًا ـ فى أمة من الأمم ـ على طائفة أو طبقة أو صناعة أو هيئة اجتماعية دون أخرى .
* * *
إن الجماعات البشرية لم تخل قط من شعور كشعور الوطنية منذ عهد القبيلة الأولى ، وشواهد ذلك عديدة فى التاريخ طفق العقاد يحصيها .
أما الدين فلو كان ل « كارل ماركس » نصيب من خيال التشبيه لما خطر له أن يشبهه بشىء من المخدرات أو المسكرات ، فالأديان جميعا تقوم على الثواب والعقاب ، ولا مجال فى تبعاتها لفكر مخدور أو سكران .
وبعد فهذا فصل عن تفسير الفلسفة المادية للعقائد الدينية لم يرد به العقاد ـ فيما يقول ـ تفسير الأديان ولا الموازنة بينها .. ولكن ليبين قصور تلك الفلسفة عن تفسير نشأة الدين فى المجتمع وفى نفس البشرية ، بالقياس إلى الفرائض الاجتماعية العامة كفرائض الشريعة وفرائض العرف والعادة وفرائض الأخلاق والآداب ، وأوضح ما يكون القصور فى هذه الفسلفة حيث تعرض لسريرة الإنسان وعوامل الحياة الاجتماعية التى لا تحيط بها كلمة
« المال » أو كلمة الإنتاج .
( يتبع )